كان بوسعى، شأنى فى ذلك شأن بقية أعضاء هيئة التدريس، استقبال ضيوفى فى مكتبى بالجامعة متى شئت، ولم يكن هناك ما ينبغى القيام به سوى إخطار حرس الكلية الذى يقوم بدوره باتخاذ الإجراءات الروتينية المعتادة. وقد جرى الحال على هذا المنوال طوال الأعوام الثلاثين الماضية حيث استقبلت فى مكتبى مئات من الأساتذة والطلاب والكتاب والأدباء والدبلوماسيين ورجال إعلام، أجانب وعرب ومصريين. لكن فجأة تغير كل شىء وانقلبت الأمور بالنسبة لى رأسا على عقب، لماذا؟ لأننى قمت بمقابلة أيمن نور فى مكتبى بالجامعة. لم أكن أعرف الرجل أو التقيت به من قبل وجها لوجه حين اتصل بى تليفونيا ليعبر عن رغبته فى لقائى لتسليمى دعوة مكتوبة للمشاركة فى مؤتمر، ومثلما اعتدت مع كل من يطلب اللقاء بى كان من الطبيعى أن أرحب به. ولأنه لم يسبق لى الانضمام إلى أى حزب أو تنظيمات سياسية، سرية كانت أم علنية، أصبح حرصى شديدا على مراعاة الشفافية والعلانية فى كل ما أقوم به من أنشطة، خاصة تلك التى يسهل وصفها أمنيا بأنها «سياسية»، ومن هنا تفضيلى لأن يجرى اللقاء فى مكتبى بالكلية حتى لا يساء فهمه أو تفسيره، ولم يدر بخلدى ولو لحظة واحدة أن هذه الزيارة ستفتح على أبواب جهنم. وصل أيمن نور إلى الجامعة قبل موعده المحدد بقليل، وحين عبرت البوابة الرئيسية قاصدا مكتبى سألنى أحد ضباط الأمن مبتسما عما إذا كنت أنتظر أحداً، فقلت له نعم، وذكرت اسم الضيف فبادرنى قائلاً إنه وصل بالفعل ويجلس فى غرفة الحرس، فطلبت منه إبلاغه أننى أنتظره فى مكتبى. وبعد دقائق وصل أيمن نور إلى مكتبى واستغرق اللقاء حوالى الساعة، وقبل أن ينتهى بدقائق طرق باب مكتبى شاب لا أعرفه يحمل فى يده كاميرا وسألنى عما إذا كان بوسعه أن يلتقط صورة تذكارية وعد بإرسال نسخة منها على بريدى الإلكترونى، فلم أمانع، غير أننى لم أتوقع مطلقا أن أجد الصورة منشورة فى اليوم التالى على صفحات «الدستور». ورغم أن ما حدث كان مفاجأة أصابتنى بالدهشة، إلا أننى لم أعر الموضوع اهتماما يذكر لسبب بسيط وهو أن اللقاء لم يكن سريا وجرى فى وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الجميع. بعد يومين كنت أنتظر ضيوفا أجانب سبق إبلاغ حرس الكلية كالمعتاد بأسمائهم وبموعد وصولهم حين أخطرت بتعذر دخولهم لأننى لم أستخرج تصريحا مسبقا من «مكتب العلاقات العامة بالجامعة». وعندما اتصلت تليفونيا بالأستاذ الدكتور رئيس الجامعه الذى أعرفه منذ كان نائبا، بناء على اقتراح من قائد حرس الكلية، تبين لى أن زيارة نور تركت أثرا سيئا لدى الأوساط الرسمية وأنه يتعين علىّ مراعاة القواعد «الجديدة» المنظمة لاستقبال الضيوف من خارج الجامعة. وبعد أن أوضحت لرئيس الجامعة أنه لا علم لى بهذه القواعد من قبل، وأنى أول من يلتزم ويحترم أى قواعد تقرر وتطبق على الجميع، رجوته أن يسمح للضيوف بالمرور هذه المرة إلى أن نلتقى معا ونتبادل وجهات النظر حول ملابسات ما جرى فى الموعد الذى يحدده. وبعد أن وافق الرجل مشكورا على هذا الاقتراح قمت على الفور بالاتصال تليفونيا بضيوفى المنتظرين على باب الجامعة واعتذرت لهم عن خطأ إجرائى وقعت فيه وأخبرتهم بأن الخطأ تم تداركه وسيسمح لهم بالدخول خلال دقائق معدودة. غير أنهم عاودوا الاتصال بى ليحيطونى علما بأن مدير الحرس حضر بنفسه وأبلغهم أن عليهم تحديد موعد آخر بالاتفاق مع مكتب العلاقات العامة بالجامعة، وانصرف الضيوف. قيل لى فيما بعد أن سبب الاستياء هو قيام أيمن نور «بالتجول» داخل الحرم الجامعى للدعاية السياسية. وعندما استفسرت عن الأمر لاحقا تبين أنه لم يسمح لسيارة نور بالدخول وبالتالى كان عليه أن يقطع المسافة سيرا على الأقدام من مبنى كلية الاقتصاد حتى البوابة الرئيسية، وأن الطلبة الذين تعرفوا عليه فى الطريق طلبوا منه التقاط بعض الصور، لكنه لم يقصد أى مكان آخر خارج كلية الاقتصاد، وأن الأمر كله لم يستغرق أكثر من عشر دقائق هى الزمن الذى يتطلبه قطع الطريق!. فى اليوم التالى تلقيت مكالمة تليفونية من الأستاذة الدكتورة عميدة الكلية والتقينا على فنجان قهوة فى مكتبها. وبعد أن شرحت لها ملابسات الزيارة وعرضت هى وجهة نظرها محاولة بلباقتها وكياستها المعتادة احتواء الموقف، اتفقنا على أن أقوم بإخطارها مسبقا بأى زيارة «مهمة» أو «حساسة» كى تتولى بنفسها إخطار العلاقات العامة واستخراج التصريح اللازم. غير أن العوائق المتعمدة تواصلت، حيث تكرر الأمر بعد يومين مع مراسلة التليفزيون النمساوى التى مُنعت من الدخول مع المصور المرافق حيث تعذر الاتصال بالسيدة العميدة التى لم ترد على تليفونها المحمول لأيام ثلاثة متتالية كانت خلالها مشغولة بحضور مؤتمر الحزب الوطنى بصفتها عضوا بارزا فى لجنة السياسات. ولأننى حرصت على أن أقطع الشك باليقين وعدم ترك الباب مفتوحا للتعلل بأى أعذار، ذهبت بنفسى فى المرة التالية إلى مكتب العميدة وحررت لها طلبا مكتوبا، للتصريح بدخول معد برنامج «العاشرة مساء» فى قناة دريم، تسلمته بنفسها. غير أننى فوجئت بها فى اليوم التالى تتصل بى بنفسها تليفونيا، مشكورة، لتبلغنى، آسفة، رفض الجامعة إصدار التصريح المطلوب!. وهنا لابد من وقفة، لأن القضية تتعلق باستقلال الجامعة وبالحرية الأكاديمية. ليس لدى أى وهم حول استقلال الجامعات فى مصر على الرغم من وجود نص صريح فى الدستور. فرئيس مجلس الوزراء يعين رؤساء الجامعات بناء على ترشيح وزير التعليم العالى، ووزير التعليم العالى يعين النواب بناء على ترشيح رئيس الجامعة، ورئيس الجامعة يعين عمداء ووكلاء الكليات... إلخ. وفى غياب معايير أو ضوابط قانونية ومهنية تحدد قواعد اختيار القيادات الجامعية، فيما عدا رؤساء الأقسام العلمية الذين يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجامعة طبقا لنص يلزمه بالاختيار من بين أقدم ثلاثة أساتذة فى القسم، فقد كان يتم شغل المناصب القيادية فى الجامعة وفق معايير «شللية» تحدد خطوطها موازين القوى داخل أوساط النخبة الحاكمة ومدى صلة القرابة أو المعرفة الوثيقة بصناع القرار من ذوى النفوذ. ويبدو أن الأوضاع تغيرت فى السنوات العشر الأخيرة حيث بدأت المعايير والاعتبارات السياسية والأيديولوجية تطغى على المعايير والاعتبارات الشللية وفق «الفكر الجديد» وإصرار لجنة السياسات على الهيمنة على جميع المواقع والمفاصل الحساسة فى جميع قطاعات الدولة، وهنا مكمن الخطر، إذ يفترض أن يظل الجهاز الإدارى للدولة بمنأى تماما عن الصراعات الحزبية، وإلا فقد كفاءته تمهيدا لانهياره وتفككه تحت وطأة الصراعات الحزبية والسياسية. ولنا أن نتصور حجم الفوضى التى يمكن أن تترتب على قيام المسؤولين عن إدارة الدولة بتقديم الخدمات الرسمية للمواطنين وفق معايير سياسية وأيديولوجية. نتخيل مثلا أن يمتنع رجل أمن عن تقديم الحماية لمواطنين يحتاجون إليها، أو ينزل العقاب بمواطنين لم يرتكبوا جرما، أو يقوم رجل المرور بتحرير محاضر مخالفات لمواطنين لا ذنب لهم ولا جريرة سوى أنهم لا يوافقون على سياسات الحزب الحاكم ويرفضون مشروع التوريث، أليس هذا عملاً تمييزياً إجرامياً؟ لست من المطالبين بتحويل الجامعات إلى ساحة للصراعات السياسية، وكنت ولا أزال وسأظل من أشد المطالبين بالحرص على تقاليد جامعية راحت للأسف تنهار تحت وطأة سياسات استبدادية يمارسها الحزب الوطنى ولا تعير حرمة الجامعة أو استقلالها أو حرياتها الأكاديمية أى اعتبار. وأظن أنه آن الأوان كى يدرك رؤساء الجامعات أن انتماءهم للحزب الوطنى أو عضويتهم فى لجنة السياسات لا تعطيهم الحق فى معاملة تفضيلية بين أعضاء هيئة التدريس. فالتمييز على أساس الانتماء السياسى ليس مجرّما فقط من الناحية القانونية ولكنه ينطوى على خطر أخلاقى وعلمى كبير، خصوصا فى نظام يقال إنه يقوم على التعددية السياسية. لماذا يفترض مندوبو لجنة السياسات لإدارة الجامعات أن دخول شخصيات رسمية أو رجال صحافة وإعلام إلى الجامعة لمقابلة أعضاء هيئة تدريس ينتمون للحزب الوطنى أمر طبيعى ومرحب به، بينما يُنظر إلى دخول شخصيات سياسية معارضة أو رجال صحافة وإعلام لمقابلة أعضاء هيئة تدريس من المستقلين أو ينتمون لأحزاب وقوى معارضة على أنه عمل مخل بالأمن أو بالتقاليد الجامعية. فهل لاتزال جامعة القاهرة لكل المصريين، أم خضعت للخصخصة وأصبحت ملكاً خالصاً للحزب الوطنى بموجب صكوك سرية؟