عندما دخلنا من بوابات المدينة العتيقة كان أول ما استقبلنا هو رائحة الحريق، وقد تبدل لون السماء من الأزرق إلى لون كالهباب. لا بأس فالرحلة صعبة كما حذرنا السابقون فى بلدى، قالوا: «عندما تخطون إلى تلك المدينة ذات الحسب والنسب والتاريخ العتيق لا تنزعجوا إذ ترونها كعجوز شاخت بدون أولادها. مسكين هذا البلد الذى كان يوما ملء السمع والبصر، فقد حط عليه الجراد فأتى على الأخضر واليابس. لا تنسوا غرض الزيارة، والمحتاج يركب الصعب». بعد أن اعتادت عيناى لون السماء وألفت رئتاى رائحة الشياط لفت انتباهى كثرة الناس فى الشوارع. كانوا كثراً كالنمل الخارج من الجحور، بعضه راكب سيارة والبعض الآخر يجرى بين السيارات، وكانت أمى منهكة من أثر الرحلة ومن ضعف جسدها الذى أخذت تجره جرا فى السنوات الأخيرة. وصلنا إلى المستشفى حيث ستقضى ليلتها قبل أن يراها الحكماء غدا. تركتها مع الممرضة وانطلقت إلى السوق ومعى مرشد من أهل البلد. ويا ليتنى ما ذهبت! من بعيد خُيل إلىَّ أننا فى أيام عيد الأضحى من كثرة الغنم المعلق على خطاطيف فى واجهات محلات الجزارة. وعندما سألت المرشد ضحك كاشفا عن أسنان صفراء متآكلة قائلا «سلامة الشوف يا سيدى، هل ترغب فى تظبيط عينيك مع كلية الست الوالدة بالمرة، هذه ليست خرفان عيد الأضحى، رغم أن وقته قد اقترب. هذا هو السوق.. السوق من أجل الست الوالدة ربنا يعافيها. وبعدين إحنا كبير الحكماء بتاعنا ولا مؤاخذة بيقول إن سوقنا نمرة 3 على العالم. طبعا الاتنين اللى قبلنا أسعارهم نار، يعنى احنا الأقرب والأوفر». ترجلنا من السيارة على بوابات الشارع وسرنا على القدمين. قال المرشد يجب ألا يرى أحد السيارة حتى لا يظنوا أننا أغنياء. اقتربنا من محلات الجزارة فرأيت أطفالا ورجالا وسيدات معلقين فى الواجهات، منهم من كان ممسوكا بحبل فى المعصم، ومنهم الأطفال الذين عُلقوا من أرجلهم فتدلت رؤوسهم لأسفل. لم يكونوا أمواتا بالطبع وإلا ما كانت هناك تجارة. كانوا أحياء يتحدثون ويتشاجرون، ولفتت انتباهى تلك الأم وهى تنهر طفليها وتطلب منهما وقف الشجار. وكانت اليافطة تضوى بالأحمر والأزرق حول اسم المحل «كلاوى أبوسيد الطازة». وتراصت فى فاترينة عرض صغيرة كبد وكلاوى وعيون معروضة فى صوانٍ كبيرة ومزينة بالورود البلاستيكية الميتة. شعرت بانقباض معدتى وضيق نفسى، فطلبت من المرشد أن نرحل عن المكان، فرد مستغرباً: «بالسرعة دى ياباشا هو احنا لسه اخترنا، خللى بالك مش كل البضاعة كويسة، ده فيه كلية مليانة حصاوى وفيه كلية نشفت وقددت من شرب مية المجارى، لازم الحكماء يكشفوا ويتأكدوا». لاحظ الباعة أننا نسرع الخطوة فى اتجاه الخروج من المكان فالتفوا حولنا يتكلمون فى الوقت نفسه، ويشيرون بأيديهم إلى بضاعتهم، واقترب أحدهم ممسكا بتلابيب طفل صغير لا يتعدى الثانية عشرة وقد رفع عن جسده الجلباب المهترئ، وأخذ يلفه يمينا ويسارا متفاخرا بسلامة البضاعة. وانهالت علينا أوراق الإعلانات الصغيرة الملونة كتلك التى يرميها أطفال يشبهون هؤلاء فى وجهك وأنت تقود سيارتك فى شوارع المدينة البائسة، ولكن بدلا من إعلانات المطاعم وتصليح الأجهزة الكهربائية، كانت تلك إعلانات من نوع آخر: «قرنية أبوعطوة تريك العالم بالألوان»، «كلية فى مقابل تذكرة سفر لإيطاليا. كليتين لو تذكرة وتأشيرة رسمى».. شعرت بنبضات قلبى تتسارع وركبتى ترتعشان وأنا أتذكر أمى الراقدة الآن فى سرير المستشفى فى انتظار كلية. لف العالم من حولى دورات عنيفة وأتانى صوت المرشد من بعيد: «انت كويس ياباشا؟ الله يخرب بيوتكم عملتوا إيه فى الزبون!» وكان آخر ما التقطته عيناى قبل الإغماء هو مشهد رجال متأنقين فى بدل زرقاء ذوى ذقون محلوقة يقفون على البعد فوق منصة عالية كأنهم يخطبون فى الجموع ووراءهم شعارات عن العبور إلى المستقبل، لا أعرف ماذا كانوا يقولون، لكننى أعلم أن الحشد لم يرهم ولم يهتم أحد بالإنصات إليهم.