لا أدرى كم منكم عايش فكرة المقايضة، أى أن تشترى سكرا مقابل بيض الدجاج أو أن تشترى سجائر مقابل قدح من القمح أو الذرة؟ ورغم أن المقايضة سادت فى الفترة من 9000 إلى 6000 قبل الميلاد، قبل اختراع فكرة النقود، فإننى وكل أبناء جيلى فى قريتى قد عملنا بنظام المقايضة الذى لم يتوقف فى الصعيد إلا فى سبعينيات القرن الماضي. وأذكر أننى عندما ذكرت مرة لزملائى فى درس الاقتصاد فى فترة الدراسات العليا أننى شخصيا قد مارست المقايضة فى طفولتى وصباي، ظنوا أننى أمازحهم لأن اقتصاد المقايضة كان يعنى لهم أوروبا العصور الوسطى، ولم يتخيلوا أن يجلس بينهم زميل مارس هذا بنفسه. ولكن ما لزوم هذا الكلام فى فترة الكساد المالى العالمى؟ لزومه هو ألا ننسى أن التعامل المادى قائم على الثقة فى الأساس قبل أن يكون عملة، ومعرفة تطور تاريخ الثقة بين الأفراد والدول هى بداية فهم الأزمة المالية العالمية. كنا نعطى البائع بيض دجاج ويبادلنا به سكرا، وكنا ننظر فى عينيه لنتأكد من أن السكر ليس مغشوشا، وكذلك كان ينظر هو فى عيوننا ليعلم أن البيض ليس فاسدا. كان التواصل بين البائع والمشترى تواصلا مباشرا. واقتصاد المقايضة كان يعنى أيضا أن تواجه الشخص الذى تشترى منه السلعة فى سياقه المحلى حيث يكون فيه من حولك شهود على عملية المقايضة هذه. الأزمة التى حدثت فى عصر الأموال الإلكترونية اليوم أساسها فقدان هذا التواصل المباشر الذى أدى إلى فقدان الثقة. فالبيض الذى ثمنه جنيهان أو ثلاثة فى حالة المقايضة تحول إلى سهم فى شركة تبيعه بعشرة جنيهات، وتبيعه لشركة ثانية بعشرين جنيها، وتتباعد المسافة بين المشترى والبيض فيتحول السهم إلى خمسمائة جنيه، مما جعل لدى المشترى الأخير قلقا فهو لا يعرف ما الذى اشتراه. يدفع خمسمائة جنية وفجأة يكتشف أنه اشترى بيضة. لذا بدأ الجميع اليوم يتردد ويتراجع لأنه لا يعرف ما الذى اشتراه فى صورة أسهم اسمية. هذا بتبسيط هو جوهر الأزمة. ظهور المؤسسات الحديثة للنقد، ألغى عنصرى الزمان والمكان الملتصقين للذين كان من غير الممكن أن تتم المقايضة من دونهما، ففى اقتصاد المقايضة كان شراء سلعة يعنى وجود فرد يبيع وآخر يشترى وجها لوجه بوجود شهود فى مكان محدد وزمان محدد. فى غياب هذه العناصر الحاكمة للمقايضة، كان لا بد من وجود قوة تحمى المؤسسات الحديثة للنقد، وكذلك لا بد من وجود مؤشرات كثيرة أخرى تحدد قيمة العملة عند انتقالها من سوقها المحلية إلى السوق فى سياق آخر، سواء كان الأمر يحدث فى السياق الإقليمى أو فى السياق العالمي. هذه المؤسسات الحاكمة لسير العملات، لابد وأن تكون لديها الثقة عند العاملين بها والمتعاملين معها. إذن، نحن انتقلنا هنا من التواصل وجها لوجه فى المكان ذاته والزمان ذاته، إلى التواصل غير المباشر بين الناس فى أماكن مختلفة وكذلك أزمنة مختلفة، فكيف صدقنا أن ما يحدث هو فعليا محل ثقة؟. الحداثة الأوروبية قدمت لنا نظاما يمكن تسميته نظام الخبراء الذى أدى إلى تركيز هذه الثقة، فرغم أننا لا نعرف العاملين فى مصانع شركة «مرسيدس» للسيارات أو العاملين فى شركة «هوندا» أو حتى «هونداى» الكورية، فإننا نثق فى أن السيارة ستعمل إذا ما وضعنا فيها البنزين وأدرنا المفتاح وأن الفرامل ستكبح السيارة عندما نريد التوقف. ترى لماذا لدينا هذه الثقة فى هذه الصناعات؟ كيف حدث ذلك، وهم أناس لا نراهم ولا نعرفهم؟ ما صدقناه هنا هو نظام الخبرات الحداثى المرتبط بعلامة «بوينغ» أو «هوندا» أو «مرسيدس»، صدقناه بناء على تجربة وممارسة مباشرة وغير مباشرة، وذلك أيضا له ثمن نقدى، أى أنه ذو قيمة مالية. ما حدث هنا هو انتقال أنظمة الثقة من المباشرة فى المكان والزمان إلى ثقة الواسطة الفاصلة بين الزمان والمكان عن طريق أنظمة حداثية لاختبار المصداقية. والنقود الإلكترونية (Electronic Money) التى تنقل جبالا من الأموال إلكترونيا فى ثوان عبر القارات خير مثال على ذلك. تقلقل نظام الخبرات الحداثى هذا، هو الذى أدى إلى اهتزاز الثقة وظهور الأزمات المتعددة فى الإقراض ونقص السيولة المصرفية والرهونات العقارية وأزمة البورصات، ومن ثم تطورها. الأزمة المالية الراهنة هى أزمة ثقة فى المقام الأول. ومؤتمر قمة الدول العشرين الذى انعقد السبت الماضى فى واشنطن كان هدفه الأساسى هو إيجاد آليات للثقة فى المؤسسات المالية العالمية. فهل سينجح العالم اليوم فى إعادة الثقة إلى مؤسساته المالية والاقتصادية؟ وهل سيجد طريقة إلكترونية ما يحدق فيها المشترى بعين البائع ليتأكد من مصداقيته قبل أن يضع المال فى كفه الإلكترونية أيضا؟