منذ أسابيع قليلة كانت هناك مناسبة فى مصر المحروسة لا تجد مثلها إلا قليلاً، وتتمثل فى الاحتفال بوالدى إحسان عبدالقدوس رحمه الله فى ذكراه العشرين، حيث ذهب إلى الحياة الأخرى التى تنتظر كلاً منا مع بدايات سنة 1990، وهناك قول مأثور عن طبيعة بلادى بأن كل شىء فيها يُنسى بعد حين!! فإذا احتفلت بكاتب كبير بعد وفاته بسنوات طويلة وظل فى ذاكرتها فإن هذا الأمر بالطبع يدخل فى دنيا العجائب والغرائب. ويختلف أبى، عليه ألف رحمة، عن غيره بأنه متعدد المواهب بطريقة قل أن تجد لها نظيراً بين المفكرين والمثقفين، فهو صحفى من الطراز الأول وكاتب قصة لا يُشق له غبار أثرت قصصه السينما المصرية، كما أن إحسان عبدالقدوس أول من قام بكسر الجدار الذى كان يحيط بالكتابة السياسية ويمنعها عن العامة والناس العاديين، فأجرى حوارات بين شاب ثورى وعجوز محافظ فى أحوال البلد تحت عنوان «على مقهى فى الشارع السياسى» بدأها فى مجلة أكتوبر التى كان الرئيس الراحل أنور السادات وراء إنشائها سنة 1976، واستكملها بجريدة الوفد عند قيامها سنة 1984 تحت رئاسة أحد أساتذتى فى الصحافة الراحل الكبير «مصطفى شردى» عليه ألف رحمة. ولا يحتاج والدى إلى دعاية، ولو كانت من ابنه، فهو فى وجدان الشعب المصرى. وأتعجب عندما أرى بنات كُنّ أطفالاً بل لم يطللن بعد على الدنيا عندما مات إحسان عبدالقدوس، ومع ذلك يعشقن قصصه، وهذا دليل مؤكد على أن تأثيره لا يقتصر على جيله فقط، بل على الأجيال اللاحقة أيضاً وحتى القرن ال21 الميلادى. وقد تميز أبى عن غيره بأنه كاتب الحب، متخصص فى أحلامه وأوجاعه، وربما تتعجب من ذلك وتتساءل: ولماذا لم تعترض عليه وأنت تنتمى إلى الإخوان المسلمين، وقد عشت معه فى منزل واحد حتى وفاته رحمه الله؟؟ والإجابة تتمثل فى أمرين، أولهما أن العلاقة بينى وبينه تميزت دائماً بأنها حلوة يسودها الود والحب والدفء والحنان، وقد أعطانى دوماً حريتى فى التفكير والسلوك، ومن جانبى كانت مكانته «على راسى من فوق» لأنه أبى فى النهاية، والأمر الثانى أن مفهوم الحب عنده واسع جداً لا يقتصر على الغرام والهيام، بل تجده يشمل حياته كلها.. داخل بيته وخارجه، فى علاقاته مع الناس خاصة زملاءه الصحفيين الذين عملوا معه سنوات طوالاً فى مجلة «روزاليوسف» منذ الأربعينيات من القرن العشرين الميلادى وحتى أوائل الستينيات، وبعد ذلك فى أخبار اليوم قبل أن ينتقل إلى الأهرام سنة 1974. استطاع والدى بهذا الحب تحقيق معجزة فى الصحافة هى الأولى من نوعها فى العالم العربى، بل فى منطقة الشرق الأوسط بأكملها، حيث نجح وهو على رأس جريدة أخبار اليوم فى أن يصل بتوزيع الصحيفة إلى أكثر من مليون نسخة وهو رقم غير مسبوق على الإطلاق. وكان عدد سكان مصر وقتها أقل من نصف عدد سكانها الحالى، لم يصل إلى أربعين مليون نسمة، وكانت هناك رقابة على الصحف، ولم تكن الطباعة قد تقدمت بالطريقة التى نراها الآن، ونجح إحسان عبدالقدوس فى تخطى كل تلك العوائق والعقبات وحقق معجزة صحفية بكل المقاييس تمثل إنجازه العظيم الثانى، وكان نجاحه الأول الكبير فى روزاليوسف، التى شهدت قمة مجدها عندما تولى رئاستها مع العلم بأنه كان دوماً مشغولاً بكتابة قصصه ولم يكن متفرغاً للصحافة، بل تزوج الأدب إلى جانب صاحبة الجلالة، وإذا أرجعت ذلك إلى عبقريته فلا تنس أن تلك العبقرية كانت ممزوجة دوماً بحب من يتعامل معهم، ولذلك حقق نجاحا لم يسبقه إليه أحد، والحب قادر على صنع المعجزات: هذا الكلام حقيقى من الواقع.