بعد عامين تقريباً على توقيع الرئيس السادات معاهدة «سلام» مع إسرائيل، وتحديدا فى فبراير 1982، نشرت مجلة يهودية اسمها «كيفيونيم» (وترجمتها بالعربية «آفاق» أو «اتجاهات») دراسة بالعبرية تحمل عنوان «استراتيجية إسرائيلية للثمانينيات»، كتبها دبلوماسى إسرائيلى سابق اسمه أوديد ينون. ونظراً لخطورة ما تضمنته هذه الدراسة، التى ترقى فى نظر البعض إلى درجة الوثيقة، فقد أولتها رابطة الخريجين العرب فى الولاياتالمتحدة عناية خاصة، وكلفت البروفيسور الناشط إسرائيل شاحاك، أستاذ الكيمياء العضوية فى الجامعة العبرية رئيس الرابطة الإسرائيلية للحقوق السياسية والمدنية، بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، وقامت بنشرها لاحقا تحت عنوان The Zionist Plan for the Middle East مشفوعة بمقدمة وخاتمة كتبها شاحاك. لذا كان من الطبيعى أن تحظى باهتمام غير عادى من جانب العديد من المثقفين العرب إلى درجة أن المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة، الذى قاد الدفاع فى قضية «تنظيم مصر» عام 1988، لم يتردد فى إرفاقها كوثيقة ضمن مستندات الدفاع التى قدمها للمحكمة دفاعا عن المتهمين فى هذه القضية، باعتبارها إحدى الوثائق التى تثبت أن إسرائيل لا تزال تكن لمصر، رغم قيامها بالتوقيع على معاهدة «سلام» معها عام 1979، كراهية عميقة وتتعامل معها كعدو استراتيجى. كنت قد أشرت مراراً إلى هذه الدراسة فى العديد من كتاباتى، بل قمت منذ حوالى عامين بكتابة سلسلة من خمس مقالات تحت عنوان «قراءة جديدة فى أوراق قديمة: الاستراتيجية الصهيونية لتفتيت العالم العربى» نشرت فى أكثر من مكان وتناولت بالتحليل هذه الدراسة. وكان يفترض أن يكون هذا كافيا جداً وبالتالى عدم الحاجة للعودة إليها مرة أخرى. غير أن إصرار «الليبراليين الجدد» فى مصر على تخريب وعى الشباب بالبحث عن أعداء آخرين، مثل إيران وحماس وحزب الله، إلى درجة ترويجهم أحيانا لفكرة التعاون بين إسرائيل و«المعتدلين العرب» لمواجهة «العدو المشترك» يدفعنا للعودة إلى هذه الدراسة مرة أخرى لتذكير الشباب المصرى بأن إسرائيل كانت ولا تزال وستظل لفترة طويلة قادمة هى العدو الرئيسى. ولأننى لا أطمح لفرض وجهة نظرى الشخصية أو موقفى الأيديولوجى، فسوف أكتفى هنا بنشر فقرات أساسية من تلك الدراسة، تاركا للقارئ أن يستنتج منها ما يشاء وأن يربط بنفسه هذه الاستنتاجات مع ما يجرى فى العالم العربى من فتنة طائفية وصلت فى مصر، التى كنا نتصورها قمة التماسك والتجانس، إلى حد قيام البعض بإطلاق النار عشوائيا على مصلين مسيحيين فى عيدهم فى مدينة نجع حمادى. تبدأ دراسة ينون بإلقاء نظرة عامة على «العالم العربى والإسلامى» وتصوره على النحو التالى: «برج من الورق أقامه الأجانب، خاصة فرنسا وبريطانيا، فى العشرينيات دون مراعاة لرغبات السكان أو تطلعاتهم، وعالم ينقسم إلى دول عديدة يشكل كل منها من خليط من أقليات وطوائف مختلفة يعادى بعضها بعضا، إلى حد اندلاع الحروب الأهلية، ومعرضة بالتالى لخطر التفتت العرقى». ويضيف ينون «أن الوضع الاقتصادى والاجتماعى، الذى أفرز قلة ثرية محدودة العدد وأغلبية ساحقة لا يزيد متوسط دخلها على 300 دولار فى العام، يفاقم من الأزمة الطائفية فى هذه المنطقة من العالم ومن ثم يطرح على إسرائيل تحديات جساما لكنه يتيح أمامها فى الوقت نفسه فرصة ذهبية يتعين عليها استغلالها». ومن هنا مطالبته إسرائيل بتبنى استراتيجية لتفتيت العالم العربى وتحويله إلى كيانات طائفية متصارعة مع بعضها البعض، باعتباره السبيل الوحيد لتمكينها من تحقيق أهدافها وغاياتها الكبرى. لكن ما هى بالضبط هذه الأهداف والغايات؟. يشرحها ينون على النحو التالى: «إن التمييز فى دولة إسرائيل بين حدود 48 وحدود 67 لا معنى له. ففى أى وضع سياسى أو عسكرى مستقبلى يجب أن يكون واضحا أن حل مشكلة عرب إسرائيل لن يتم إلا بقبولهم لوجود إسرائيل ضمن حدود آمنة حتى نهر الأردن وما بعده.. فليس بالإمكان الاستمرار فى دولة يقيم ثلاثة أرباع سكانها على شريط ساحلى ضيق ويكتظ بالسكان على هذا النحو.. وبالتالى فإن إعادة توزيع السكان ينبغى أن تشكل هدفا استراتيجيا داخليا من الدرجة الأولى، وبدون ذلك لن نضمن البقاء فى المستقبل فى إطار أى نوع من الحدود لأن مناطق يهودا والسامرة والجليل هى الضمان الوحيد لبقاء دولة إسرائيل. وما لم يشكل اليهود أغلبية سكانية فى المناطق الجبلية فلن نستطيع السيطرة على هذا البلد وسوف نصبح مثل الصليبيين الذين لم يتمكنوا من البقاء فيه لأنه لم يكن ملك لهم أصلا وعاشوا فيه غرباء منذ البداية، ويجب أن ندرك أن إعادة التوازن السكانى الاستراتيجى والاقتصادى باتت هى الهدف الرئيسى والأسمى لإسرائيل اليوم، وأن السيطرة على المصادر المائية من بئر سبع وحتى الجليل الأعلى أصبحت هدفا قوميا ينبثق طبيعيا من الهدف الاستراتيجى الأساسى والذى يقضى باستيطان المناطق الجبلية التى تخلو اليوم من اليهود». ولأنه أدرك، عن حق، استحالة قبول الدول العربية لهذه الرؤية، يرى ينون أنه لا أمل لإسرائيل فى الوجود والأمن، مهما أبرمت من اتفاقات سلام، إلا إذا تبنت استراتيجية لتفتيت العالم العربى والإسلامى على أسس طائفية، وقدم فى دراسته مقترحات محددة ومفصلة لهذه الاستراتيجية. ولأن المقام لا يتسع هنا لعرضها تفصيلا، فسنكتفى هنا بالفقرات الخاصة بمصر. يقول ينون: «فى مصر أغلبية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين يبلغ تعدادها 8 ملايين نسمة لكنها تشكل أغلبية فى الوجه القبلى. أما ملايين السكان فيعيشون على حافة الجوع ويعانون من البطالة وقلة السكن، والدولة كلها فى حالة إفلاس دائم لم ينقذها منه سوى مساعدات خارجية أمريكية حصلت عليها بعد التوقيع على اتفاقية السلام. ولا يوجد أى قطاع آخر سوى الجيش يتمتع فى هذا البلد بأى قدر من الانضباط أو الفاعلية». ويضيف: «لن يلتزم المصريون باتفاقية السلام بعد استعادتهم لسيناء (يتعين أن نلاحظ هنا أن القوات الإسرائيلية لم تكن قد أكملت بعد انسحابها من سيناء)، وسوف يفعلون كل ما فى وسعهم لكى يعودوا إلى أحضان العالم العربى. ولأننا سوف نضطر يوما ما إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 67، يتعين على إسرائيل أن تضع نصب عينيها ضرورة استعادة سيناء، باعتبارها هدفا استراتيجيا من الطراز الأول، وللاستفادة بما تحتويه من موارد طبيعية». ثم يضيف: «لا تشكل مصر خطرا عسكريا استراتيجيا على المدى البعيد، بسبب تفككها الداخلى، ويمكن بسهولة إعادتها إلى الوضع الذى كانت عليه بعد حرب يونيو 67 وبطرق عديدة. فأسطورة مصر، كدولة قوية قادرة على تزعيم العالم العربى، تبددت فى 56 ثم تأكد زوالها فى 67. ولأنها فى طريقها إلى التحول إلى جثة هامدة، بحكم طبيعتها السياسية وتركيبتها الداخلية الحالية وما تنطوى عليه من تفرقة بين المسلمين والمسيحيين ستزداد حدة فى المستقبل، يتعين أن يصبح تفتيت مصر إلى أقاليم جغرافية منفصلة هدف إسرائيل السياسى فى الثمانينيات على الجبهة الغربية. فمصر المفككة والمقسمة إلى كيانات سيادية متعددة، بعكس ما هى عليه الآن، لن تشكل تهديدا لإسرائيل وستصبح ضمانا للأمن والسلام فيها لفترة طويلة. وهذا هدف بات اليوم فى متناول أيدينا». وأخيرا يضيف ينون: «سوف لا يكون لدول مثل ليبيا والسودان، والدول الأبعد منها، وجود بصورتها الحالية، وإنما ستصبح جزءا من حالة التفكك والسقوط التى ستتعرض لها مصر. فإذا تفككت مصر يسهل أن تتفكك سائر الدول الأخرى. إن فكرة إنشاء دولة قبطية مسيحية فى مصر العليا، إلى جانب عدد كبير من الدويلات الضعيفة التى تتمتع بالسيادة الإقليمية فى المنطقة، بعكس السلطة والسيادة المركزية فيها الموجودة اليوم، هى وسيلتنا الوحيدة لإحداث هذا التطور التاريخى. وتفتيت لبنان إلى خمس دويلات طائفية يجب أن يكون هو المشهد الأول فى استراتيجية تفتيت المنطقة». تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الدراسة-الوثيقة نشرت قبل أشهر قليلة من قيام إسرائيل بغزو لبنان وحصار عاصمتها بيروت وتنصيب بشير الجميل رئيسا وإجباره على توقيع معاهدة «سلام» معها. وكان يفترض أن يكون هذا المشهد هو بداية سيناريو تفتيت لبنان إلى خمس دويلات، وفقا لرؤية ينون، و«المشهد الافتتاحى» لاستراتيجية التفتيت العامة والتى كان يفترض أن تتكرر مشاهدها تباعا ينفذ حسب الظروف. وإذا كانت المقاومة اللبنانية البطلة قد نجحت فى إفشال هذا السيناريو مؤقتا بالنسبة للبنان، فليس معنى ذلك أن إسرائيل تخلت نهائيا عن استراتيجيتها لتفتيت المنطقة. ولأنها أدركت مؤخرا أنها لن تستطيع تحويلها بمفردها إلى واقع على الأرض، كان من الطبيعى أن تسعى إسرائيل لسحب الولاياتالمتحدة وراءها على الطريق، بإقناعها بأن تفجير المنطقة طائفيا يحقق حلمها بالسيطرة على النفط وحلمها هى بالأمن بمعناه المنطلق!. ويكفى أن نتأمل ما جرى ويجرى فى المنطقة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، خاصة فى ضوء ما جرى للعراق منذ عام 2003، لندرك هذه الحقيقة بوضوح. أدرك أن البعض قد يرى فى هذا المقال دعوة لتبنى نظرية المؤامرة أو لتحميل إسرائيل والغرب مسؤولية ما يجرى للمنطقة وفيها. وليس ذلك صحيحا لأننا من أوائل القائلين بأن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق النظم الحاكمة فى هذه المنطقة. فلولا غفلة هذه النظم، أو جهلها، أو حتى تواطئها الصريح مع إسرائيل والقوى الغربية لما وصل العالم العربى إلى حالة الضعف والهوان التى يبدو عليها الآن. لذا فلا خلاص لهذه المنطقة إلا بقيام نظم ديمقراطية حقيقية. فالنظم الديمقراطية الحقيقية هى فى نهاية المطاف صمام الأمان الفعلى والذى بدونه لن نستطيع صيانة كل قيمنا والدفاع عنها، بما فى ذلك المسألة الوطنية.