يلتقينى فى الطريق قارئ كريم فيعاتبنى بعد السلامات والمحبة على قصة «آس مان»، التى نشرتها هنا منذ فترة، يسألنى: أليس عيباً أن نذكر لفظ «مؤخرة» فى الصحف؟ قلت له: ليه؟ ألسنا فى أزهى عصور البنية التحتية؟. يضحك ثم يقول لى: يا أخى مافيش فايدة معاك، الحلو ما يكملش. وعندما سألته عن سر حرصه على كمال الحلو، مع أن الكمال لله وحده، اعتبر أن المناقشة لم يعد لها جدوى، وتركنى ومضى. قارئ آخر أرسل يحيينى على مجموعة قصصية لى، ثم نبّهنى إلى أننى لن أدخل تاريخ الأدب برغم ذلك، لأن تجاوزاتى اللفظية جعلته يمنع زوجته من قراءة المجموعة، وأنا سألته هل لديه عيال، وعندما أرسل إلىّ صورهم قلت له: «ربنا يخلى.. بس غريبة كنت أظن أن الذى ينكسف من بنت عمه ما يجيبش منها عيال». قارئة كريمة من دور والدتى ترسل لى (على الإيميل الذى علمها أبناؤها مؤخرا كيف تدخل عليه) رسالة عتاب لأنها تعشمت فىّ خيرا فاشترت مجموعة قصصية لى ووجدت فيها بعض التعبيرات العامية الشعبية اللى «ما تصحش»، من وجهة نظرها. إذا وضعت كل هذا بجوار الاتهام الكلاسيكى لى بأننى «أفسدت وجدان المصريين وخربت القاموس اللغوى للشباب»، وهو اتهام أحفظه عن ظهر قلب، لأنه يعطينى أكثر مما أستحق، ويفترض فىّ قوة أسطورية لا أمتلكها، فضلاً عن أنه يتيح لى أن أنضم إلى قائمة من سبق أن اتهموا بمثل هذا الاتهام من أساتذة الفن الذين أروح أنا فين منهم أو جنبهم، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر: 1 نجيب الريحانى وبديع خيرى مثلا (اقرأ إذا لم تكن تصدق كتاب حياتنا التمثيلية لمحمد تيمور وما كتبه عمنا يحيى حقى عنه وأيّده بعد ذلك عمنا صلاح عبدالصبور). 2 فؤاد المهندس وأحمد رجب وشويكار وبهجت قمر وعبدالحى أديب وجميع صناع أفلام الهلس الستينى السبعينى (اذهب إلى أرشيف المجلس الأعلى للصحافة لتقرأ فى مقالات النقاد كلاما لو كان عليه جمرك لأعدمت أشخاص أساتذتنا قبل أفلامهم). 3 حسن الإمام ومحمد مصطفى سامى وسعدالدين وهبة (اقرأ فى موسوعة نجيب محفوظ والسينما التى أصدرها الدكتور مدكور ثابت مشكورا أيام رئاسته لأكاديمية الفنون ما كتبه كبار النقاد عن أفلام مثل زقاق المدق وبين القصرين وقصر الشوق وكيف اتهموا بكتابة حوار جنسى منحط ومثير للغرائز ومهيج للجماهير). 4 عادل إمام وسعيد صالح وحسن مصطفى ويونس شلبى وجلال الشرقاوى وعلى سالم وسمير خفاجى وجميع أفراد فرقة الفنانين المتحدين (لست محتاجا لأن ترجع إلى الأرشيف لتقرأ ما تمت كتابته عن صناع مسرحيتى «مدرسة المشاغبين» و«العيال كبرت» فمازلت تجد كل تسع دقائق من يتهمهم بإفساد الأجيال وخراب التعليم وتصدع الأسر، وما إلى ذلك من التهم التى نعشق ترديدها دوناً عن غيرنا من الأمم المتحضرة التى لم تتورط أبدا فى اتهام الأفلام والروايات مهما جمحت وشطحت بإفساد أجيالها). هل يكفى مجرد رصّ هذه الأسماء ولو كان ضمن سياق ما لكى يكون دفاعا عما أُتهم به من محبىّ ومن كارهىّ، بالطبع لا، لكننى لا يمكن أن أضيع الفرصة فى الإشارة إلى مسؤولية جميع الكتاب والنقاد الذين تورطوا فى مهاجمة الأساتذة السابق ذكرهم عن تكريس المفاهيم الخاطئة فى التعامل مع الفن، بدلا من توعية الناس بأنه لا يصح محاكمة الجملة الفنية التى تراها خارجة أو بذيئة أو نابية بعيدا عن السياق الفنى الذى وُجدت فيه، ودون أن تتأمل هل جاءت معبرة عن الشخصية التى نطقت بها، وهل حققت الهدف الدرامى الذى كتبت من أجله، دون أن نفتش فى النوايا، ونُحَكِّم انحيازاتنا المسبقة التى تجعل بعض نقادنا الكبار يهاجمون بعض الجمل فى فيلم لا يعجبهم كاتبه بينما عندما ترد هى أو أفظع منها فى فيلم لمن يحبونه يعتبرونها جرأة مبهرة وفتحا فنيا. كل هذا الكلام «الفنى» بالطبع لن يأكل ببصلة مع من يتعاملون مع الفن تعاملا أخلاقيا لا أستطيع أن أقاوح معهم فيه وأجبرهم على نبذه، فقط سأهديهم ما كتبه الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينورى (وهو مَنْ هو علماً وفقهاً وعطاء) فى مقدمة كتابه العظيم (عيون الأخبار): «وإذا مر بك حديث فيه إيضاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع على أن تصعر خدك، وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم فى شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب.. ولم أترخص لك فى إرسال اللسان بالرفض أن تجعله هجيراك على أى حال، وديدنك فى كل مقال، بل الترخص منى فى حكاية تحكيها أو رواية ترويها تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن تجرى فى القليل من هذا على عادة السلف الصالح فى إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع». ولعلك الآن تدرك كيف أوصلنا فهمنا المغلوط للإثم لأن نقبع فى مؤخرة الأمم. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]