منذ أن عدت إلى مصر قبل عدة أسابيع للاستقرار فيها، على ما أرجو، أتيح لى أن ألتقى أو أتصل بعدد من المعارضين والمستقلين أصحاب المبادرات السياسية التى ظهرت فى الفترة الأخيرة، سواء تلك الداعية إلى مجابهة التوريث، أو إلى انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة أو موازية، أو ترشيح بعض رموز للرئاسة، أو حتى إعلان العصيان المدنى. سهل أن نستنكر أن هذه المبادرات تشرذمت حتى إن عددها وصل الآن إلى ثمانى مبادرات على الأقل، وسهل أن نزعم أن وراءها مطامح شخصية، أو أن نرجعها إلى تفسخ الأحزاب والحركات المعارضة، أو أن نصفها بالافتقار لرؤية شاملة. بعض ذلك أو كله صحيح قطعاً، لكننى لا أتردد فى اعتبارها صيحات مخلصة لإنقاذ البلد، يرى كل منها أن طريق الإنقاذ قد يكون مختلفاً قليلاً أو كثيراً عن الآخر، ويرى عدد من العقلاء أنه قد يكون ضرورياً أن ينبثق منها كيان يجمع بين العناصر المشتركة فى إطار نظرة أشمل لمستقبل مصر تحدده خريطة طريق محل إجماع. وتيرة هذا التغيير المرجو كانت أوضح ما تكون فى الصحف اليومية الرئيسية المستقلة الثلاث خلال الشهور القليلة الماضية على وجه الخصوص، وهى تمور بأحداث وتصريحات وتحليلات ومقالات تدق نواقيس الانتباه، وتعكس نبضاً متسارعاً يعبر عن قلق واضح بشأن ما يمكن أن يحدث من تحول خلال السنتين المفصليتين القادمتين، وتتجه إلى وضع مقترحات لتحديد مسار البلد وطرح خطوات يمكن أن تكون إصلاحية حقاً. بخلاف بعض ما يستحق الاحترام فيما نشر فى الصحف القومية، نجد أن مقالات مهمة فى الصحف اليومية المستقلة الثلاث فرشت أرضية الأساس لفهم الوضع القائم ومهدت لتصور آفاق أفضل للمستقبل، لعل فى مقدمتها سلسلة مقالات الدكتور حسن نافعة بعنوان «مستقبل النظام السياسى فى مصر»، وكذلك مقالات الدكتور أسامة الغزالى حرب والدكتور محمد نور فرحات والدكتور يحيى الجمل والدكتور حازم الببلاوى والدكتور سعدالدين إبراهيم فى «المصرى اليوم». وفى صحيفة «الشروق» كانت هناك مقالات مرموقة للأساتذة سلامة أحمد سلامة وعبدالعظيم حماد وهانى شكرالله وغيرهم. أما صحيفة «الدستور» فكان أبرز ما فيها من مقالات متتالية تلك التى كتبها الدكتور عصام العريان والأستاذة سكينة فؤاد، إضافة بالطبع إلى سيل مقالات الأستاذ إبراهيم عيسى اللاذعة، التى ميزها أنها تخاطب المواطن العادى الذى لا يطيق عادة فذلكات النخبة. ولا شك أننى أغفلت هنا أعمدة صحفية قيمة هنا وهناك لا يمكن حصرها، وكذلك صحفاً أسبوعية، ذلك أننى لم أحاول أن أضع قائمة جامعة مانعة. ذكرت الصحف الثلاث لأن إيقاعها اليومى كان يواصل طرقه محدثاً تأثيرات متفاوتة لعلها كانت فى معظمها محصورة فى المعنيين بالهم العام، إلا أن الاهتمام المتنامى لجمهور أعرض بها أتى من صدقها فى تصوير أحوال مصر المعاصرة، سواء فيما يتعلق بالفساد، أو التسلط والقمع، أو زواج السلطة بالثروة، أو التباين الفاجر بين الطبقات، أو تجذر الفقر والبطالة، أو انهيار خدمات الصحة والتعليم، أو بيع ثروة الشعب، أو انحدار الأخلاق العامة وإسفاف الإبداع، أو الإخفاق فى مواجهة الأزمات الكبرى، أو عشوائية اتخاذ القرار، أو ضياع مكانة مصر بين الأمم. وبالرغم من بعض ما أنجز مما لا يمكن إنكاره، إلا أن الصورة القاتمة كانت تصاحبها أحداث حية احتك بها المواطنون جميعاً فى معاشهم اليومى، من طوابير الخبز، إلى رى طعامنا بمياه المجارى، إلى تراكم الزبالة فى قلب العاصمة، إلى شرب المياه العفنة إن وجدت، إلى قوارب الموت المهاجرة، إلى حوادث العنف والتعذيب والبلطجة والتحرش، إلى مهاترات الإثارة فى الإعلام، إلى وقفات الاحتجاج والإضرابات وقطع الطرق التى قامت بها فئات مختلفة أحست بظلم وقع عليها، هو فى حقيقته مجرد جانب من سيادة الظلم فى المجتمع المصرى أحس به 75٪ من المصريين طبقاً لدراسة حكومية أصدرتها وزارة الدولة للتنمية الإدارية. يصاحب ذلك توتر عام غامض كأنما هو خشية من حدث مروع يتمنى الكل ألا يقع، تشهد عليه عربات الأمن المركزى المتربصة فى أركان القاهرة جميعاً، ويغلف المشهد يأس عموم الناس من إمكان الإصلاح، سواء كان إصلاح المؤسسات الخربة، أو إصلاح النظام السياسى الذى شهد كتاب مهم صادر عن الجامعة الأمريكية بعنوان «مصر فى لحظة تغيير» أنه يكاد يكون مستحيلاً. وسط هذا المناخ بدأت الصحف مؤخراً تنشر بين حين وآخر أنباء عن ترشيحات عشوائية لخوض انتخابات الرئاسة فى مواجهة مرشح الحزب الوطنى. ثم بدأت هذه الترشيحات تأخذ شكلاً أكثر جدية لشخصيات بارزة لها ثقل خاص، فى مقدمتها الدكتور أحمد زويل الذى أعرب غير مرة أنه ليس طامعاً فى المنصب، ثم الدكتور محمد البرادعى وإن كان رده أن موقفه من الترشح معلق لحين عودته لمصر الشهر القادم. وإذا بالأوساط السياسية وهى فى خضم هذه الترشيحات تفاجأ فى الأسبوع الماضى بحديث الأستاذ هيكل فى قناة «الجزيرة» بدا لكثيرين صادماً عندما قال فيه إنه لا يرى شخصاً يصلح لرئاسة مصر من الأسماء المتداولة، على أن هذه كانت عبارة عابرة من المؤكد أن الأستاذ لم يقصد بها التقليل من شأن مرشح بعينه. اتضح هذا من حديثه المستفيض مع زميلنا مجدى الجلاد فى «المصرى اليوم» الثلاثاء الماضى الذى رشح فيه بعض هذه الأسماء، إضافة إلى عدد من أبناء مصر البارزين لعضوية مجلس اقترح تسميته «مجلس أمناء الدولة والدستور» تكون مهمته صياغة دستور جديد يقود إلى انتقال سياسى خلال فترة لا تطول عن سنوات ثلاث، وأوضح أن كل ذلك يجب أن يتم تحت رعاية الرئيس مبارك وفى حضور القوات المسلحة. هو ليس انقلاباً إذن ذلك الذى يدعو له الأستاذ هيكل، وإنما أداة لتغيير هادئ رزين ينقذ مصر مما وصفه بأزمة العدل وأزمة القانون وأزمة الإدارة وأزمة الثقة، ويطرح تصوراً شاملاً أوسع كثيراً من المبادرات الجزئية المخلصة الثمانى الأخيرة، وإن كان من الإنصاف القول بأن الدكتور أسامة الغزالى حرب قد سبق قبل ذلك بيومين وطرح مشروعاً محدداً يدعو فيه لإحداث تحول نحو نظام ديمقراطى فاعل، لا يقتصر على مقاومة مشروع التوريث أو على طرح مرشحين لمنصب الرئاسة، وإنما وضع دستور حديث، وبناء مؤسسات سياسية جديدة، وإعادة النظر فى الإعلام الحكومى وفى وضع جهاز مباحث أمن الدولة، ومنح حرية واسعة للنقابات ومؤسسات المجتمع المدنى، وقيام لامركزية حقيقية فى الحكم المحلى، لكن لأن هيكل هو هيكل فإن تصوره المحدد لكيفية التغيير هو الذى حظى بوزن يتناسب مع وزن الداعى له. على أن الدعوة الرصينة للتغيير الذى دعا إليه هيكل استثارت اهتمام الرأى العام بقدر أكبر عندما حدث ما يمكن وصفه بمصادفة أو تدبير من جريدة «الشروق» بنشرها فى يوم حديث هيكل لحديث غير متوقع مع عمرو موسى، تجاوب فيه، وإن بحذر واضح، مع تكرار ترشيح اسمه للرئاسة، وأفصح أن رسالة من طلبوا ترشيحه قد وصلت. فجر اسم عمرو موسى انتباهاً فى الأوساط الإعلامية، خاصة فى قنوات التليفزيون التى تستثيرها عادة أسماء المشاهير، وعندما بدأت برامج المساء يومها فى ترديد ما نشرته الصحف اتضح للكافة أن الحديث عن رئاسة مصر الذى كانت تلك القنوات تتناوله على فترات متباعدة بتلميح أقرب أو أبعد عن الصراحة وفقاً لتوجهات أصحابها لم يعد كما كان من المحرمات. مساء الثلاثاء الماضى وما بعده تبدى لى أن الحواجز النفسية والرقابة الذاتية وضغوط القمع وأوامره قد سقطت بلا رجعة، أو فلنقل -بتعبيرات السلطة وأمنها- إن العيار قد انفلت. لم يعد هناك عائق أن يتناول الجميع المشهد السياسى العام، وانتخابات الرئاسة فى مقدمته، بحرية شبه مطلقة، لا يحدها سوى الاعتبار المقدر للرئيس مبارك. بل إن برنامج «القاهرة اليوم» فى قناة «أوربت» فاجأنا بتصريح غير معتاد للإعلامى المقرب من دوائر الحكم الأستاذ عماد الدين أديب قال فيه بلا مواربة إن الرؤساء يجب أن يمنحوا خروجاً آمناً من الحكم بإقرار عدم ملاحقتهم قانونياً، وأن هذا هو الذى يشجع أى رئيس على فتح المجال أمام تداول السلطة. ظنى أن الرئيس مبارك وهو يشاهد برامج الأيام الأخيرة ويطالع صحفها لابد أنه يمعن التفكير فى أمر ما يحدث الآن فى مصر. وأى محب للرئيس لاشك أنه سيشير عليه بدراسة مقترحات هيكل حول التغيير، بل أن يكون هو ذاته راعى التغيير. تداول السلطة لم يعد منه مفر، أصبح اليوم حديثاً ومطلباً للغالبية. ما يجب علينا أن نفكر فيه الآن بجدية هو كيف تتخذ الخطوة الأولى. وهنا اقتراح بواحد من مسلكين: المسلك الأول أن تتقدم مجموعة من أقطاب الأمة ترتكز على تصور هيكل أو بعض ما فيه أو تتخذ منه أساساً لمقترح منقح، وتطلب اللقاء مع الرئيس مبارك لتناقش الأمر معه. نحن هنا لا نتحدث عن شىء مشابه لعريضة عرابى للخديو، ولكن عن مطلب شعبى صاغته جماعة تدرك مسؤوليات المستقبل وتعرف للرئيس قدره. كما أننا لا نتحدث أيضاً عن مجموعة معارضة مناكفة وإنما عن أسماء تقترب من تلك التى طرحها هيكل ومعظمها شخصيات مستقلة، لابد أن يكون بينها شاب أو أكثر، إضافة إلى ممثلين لتيارات سياسية متباينة وإن لم يكونوا منخرطين فى الأحزاب، مثل الدكتور محمد سليم العوا والدكتور جلال أمين، إلى جانب معارضين حزبيين لم يعرفوا باستفزازهم للسلطة مثل منير فخرى عبدالنور وعشرات من «العقلاء» غيره. أما المسلك الثانى فهو أن يبادر الرئيس فيدعو أمثال هؤلاء ومعهم نخبة من وجوه الحزب الوطنى المعروفة بإدراكها لأهمية حوار حقيقى مع غيرها من النخب. ولاشك أن الرئيس هنا سيكون أول من يتذكر أنه بدأ عهده بالاجتماع بشخصيات المعارضة التى أفرج هو عنها بعد أن زج سلفه الرئيس السادات بها فى السجون، وأنه بهذا الاجتماع سيمهد لخاتمة مشابهة مشرفة لحكمه، يأتى أوانها فى وقتها المحدد. ننتظر أيضاً من الحزب الوطنى أن ينزل من عليائه، وإذا كان يؤمن حقاً بشعار مؤتمره القادم «من أجلك أنت»، فقد آن الأوان له أن يدرك أن المواطن يتطلع إلى تغيير جذرى فى أحوال البلد، يرمى إلى ديمقراطية فى سلك النظام وليس فقط فى اسم الحزب. وإذا لم يعدل الحزب جدول أعمال مؤتمره بحيث تتصدره مبادرات التغيير المطروحة، وبحيث يناقشها على الأقل مع أعضائه إن لم يكن مع القوى السياسية الأخرى، فإن مؤتمره لن يكون فى رأى عموم الناس إلا من أجل جمال مبارك. ونحن وإن كنا نعتبر أن فى مجرد طرح فكرة تولى جمال للحكم سبة فى جبين النظام إلا أن هذا شىء ومكانة الرئيس شىء آخر، لا أحد من الحريصين على مستقبل البلد يريد أن يناكف الرئيس، نحن نريده حكماً وأباً للجميع.. هذه هى المرجعية الأهم والشرعية الأقدس لمبارك.