من المفزع حقاً أن تفقد الصحافة والنخبة معاً القدرة على توجيه الحوار داخل المجتمع إلى اتجاهات مفيدة.. ولكن الأكثر خطراً أن يصنع الاثنان «أجندة» سطحية لحوار استهلاكى ساذج و«تغييبى» لمستقبل أمة تبحث عن مَخْرج وهى فى قلب الأزمة! فتحت النخبة صالة استعراضات للمعارضة وملأتها بكاميرات الفضائيات والصحف.. وقف رموز المجتمع والسياسة فى مشهد تمثيلى طويل وممل على إيقاع كلمة «لا».. ولكن أحداً منهم لم يقدم اقتراحاً، أو تصوراً، للخروج من اللحظة الراهنة.. يجتمعون ويهرولون نهاراً فى كل مكان.. ويظهرون مساءً ب«الكرافتات» و«الجيل فى الشعر» فى برامج التليفزيون، وفى الصباح التالى يقسمون ل«الدولة» ونظامها وأجهزتها «نحن معكم، ولكن هذا لزوم الشغل».. وسيفعل النظام الحاكم ما يريد، لأن المعارضة فى «جيبه»، وفى ساعة الحسم سيكون «كل برغوت على قد دمه».. والشعب المصرى اعتاد أن يتفرج وكأن البلد ليس بلده، وكأن حياته ومستقبل أبنائه لا يعنيه! وفى الصحافة والإعلام يبدو الأمر مختلفاً فى التفاصيل.. إذ لم تفتح الصحافة صالة استعراضات، وإنما أقامت مزاداً كبيراً ووهمياً على كرسى الرئاسة.. كل صباح يبحث الصحفيون عن اسم لطرحه باعتباره مرشحاً مرتقباً ومتوقعاً لانتخابات الرئاسة فى عام 2011، وكأن ترشح هذا أو ذاك يضمن تغيير وجه الحياة فى مصر.. وكأن مجرد طرح اسم من «الفراغ الكونى» يعنى فوزه فى الاقتراع على أرفع وأخطر وأهم منصب فى مصر.. مزاد غير واقعى يعبر عن جهل سياسى فادح، وعجز مهنى، ورغبة فى «الفرقعة»، إذ يذكّرك على الفور بمن أراد وضع العربة أمام الحصان.. لم يسأل أحد منا نفسه: هل المشكلة فى اسم الرئيس القادم: «س أو ص أو ع أو ل».. أم صيغة الدولة الحديثة، والدستور العصرى، والقانون العادل، والفرص المتكافئة، والتعليم البناء، والصحة الكريمة، وحقوق الإنسان؟! هل نضمن أن يأتى أحد الأسماء المرشحة فيبنى دولة ويسمح بالديمقراطية؟! ولماذا لا يكون ديكتاتوراً أو جاهلاً أو ضعيفاً؟! لماذا نعشق دائماً أن نكون «مفعول به».. نخرج من حكم شمولى دام أكثر من نصف قرن لنسلّم أنفسنا ل«فرعون جديد» لمجرد أنه يبتسم لنا الآن، ويرتدى مسوح البراءة والوداعة.. هل من المناسب أن نركن إلى العجز فنأتى بحاكم فرد لا يختلف كثيراً عن أسلافه.. أم الأهم والأخطر أن نفرض عليه نظاماً جديداً ودولة مؤسسات ودستوراً يحاسبه قبل أن يمنحه السلطات، ومدة رئاسة محددة، ودولة عدل وسيادة القانون، ثم نمنحه شرف إدارة الحكم بشروطنا وليس بمزاجه الشخصى؟.. لماذا نجر أنفسنا إلى لوغاريتم تافه بحثاً عمن يحكمنا، بينما الشعوب تفكر أولاً فى القضية الأهم: كيف سيحكمنا.. وهل يحكمنا منفرداً أم ترساً فى ماكينة منظمة.. ومتى نقول له «لا» بفاعلية، ومتى نعيده إلى طريق الصواب إذا تسلل إلى عقله وجسده «فيروس السلطة» و«أنفلونزا الكرسى».. وكيف نقول له كل صباح «شرف لك أن تحكم هذه الأمة.. ونعمة كبرى أنك رئيس مصر.. فصُن هذا الشرف، وحافظ على تلك النعمة». أقسم لكم أننا لو فعلنا ذلك فسيكون أى فرد من ال80 مليون مصرى رئيساً ناجحاً.. لماذا؟!.. ببساطة شديدة لأن الدولة سيحكمها فى هذه الحالة ثلاثة رؤساء لا تغيّرهم السلطة: الدستور.. المؤسسات.. والقانون! [email protected]