هل تعرف معنى أن يمتلئ قلبك بالحزن وأنت طفل صغير؟ هل تدرك كيف يعصف هذا الحزن بمشاعر الطفل ويجعله ينتفض فى الليل وهو يتساءل: هل ستمضى بقية الحياة على هذا النحو وهل ستكون أيامى كلها مؤلمة؟ عندما كان يستمع إلى أغنية فريد الأطرش «شعبنا يوم الفداء» التى غناها فى الأيام التالية لهزيمة 67، تلك التى ألقت بمصر كلها فى هوة بلا قرار، كان يتسلل إليه بعض الأمل، ولكن دموع أبيه التى كان يلمحها تسيل عند سماعه للأغنية كانت تشعره بأن الخطب الجلل الذى وقع لنا ليس من السهل تجاوزه، وعندما كان هو نفسه يتأمل فى كلمات الأغنية التى قُصد بها رفع المعنويات كان يختنق بالبكاء.. الأغنية كتبها الشاعر اللبنانى عبدالجليل وهبى وفيها يقول: شعبنا يوم الفداء.. فعله يسبق قوله. لا تقل ضاع الرجاء.. إن للباطل جولة. قل لهم أين المفر.. فلهم يوم أمر. قد تآخينا هلالاً وصليباً.. وتلاقينا بعيداً وقريباً. ياله يوم مقدر.. يذكر التاريخ هوله.. إن للباطل جولة. كانت الأغنية تذاع عشرين مرة فى اليوم، وكان صوت فريد الأطرش الأقرب للاستجابة لدواعى الحزن أكثر من قدرته على تلبية نداء الفرح يحفر فى نفس الطفل أخدوداً من الأسى وهو يحاول تقديم العزاء والسلوى قائلاً: فوق أرضى لن يمروا.. وبها لن يستقروا. فى طريق النصر لن نحنى الجبينا.. لن يهون العزم فينا لن يهونا. أرضنا للحق مهدُ .. وانتصار الحق وعدُ. لم يدم للظلم عهد.. لم تعش للظلم دولة.. إن للباطل جولة. ويذكر الطفل تعليق أبيه والحزن ينهشه: كيف يقول فوق أرضى لن يمروا؟ لقد مروا وعبروا واستوطنوا واستقروا والله وحده يعلم كيف سيخرجون! بعد انقشاع الأيام السوداء التالية للهزيمة بدأ الجيش يبنى نفسه من جديد، ثم خاض حرب الاستنزاف، وأخذت قواته تقوم بعمليات رائعة فى ظل اختلال مرعب فى موازين القوى بينه وبين جيش العدو، فبدأنا نفيق بعد معركة رأس العش وبعد إغراق المدمرة إيلات. لكن نشرات الأخبار لم تكن تخلو من أخبار الإغارة على العمق المصرى وسقوط عشرات الشهداء، وكان الطفل يتابع ضرب قناطر نجع حمادى ومحاولة الاستيلاء على جزيرة شدوان وقصف مدرسة بحر البقر ثم ضرب مصنع أبوزعبل.. لكن الحزن الذى صاحب وقوع الهزيمة غادر نفسية الطفل وحل محله غضب عارم ورغبة فى الثأر واستبشار بما هو آت، خاصة وقد أخذ حائط الصواريخ على طول الجبهة يقوى ويشتد وأخذت طائرات الفانتوم تتساقط. فى تلك السنوات كانت الإذاعة تقدم فى رمضان من كل عام مسلسلاً جديداً من بطولة فؤاد المهندس وشويكار بدأته ب«شنبو فى المصيدة»، وفى العام التالى «العتبة جزاز»، ثم «إنت اللى قتلت بابايا»، وبلغ السفه ذروته فى عام 72 بمسلسل اسمه «أنا وبابويا على نص أخويا» وكان الطفل الذى أخذ يخطو نحو الصبا ينظر لهذه المسلسلات نظرته المقالات التى تنشر فى الأهرام التى كانت تُشيع الوهن فى النفوس وتدفع للاعتقاد باستحالة النصر. وفى أواخر سبتمبر من عام 73 بدأ البرنامج العام مسلسلاً جديداً شارك فيه إلى جوار المهندس وشويكار المطرب الجديد هانى شاكر، ثم توقف المسلسل فى اليوم العاشر من رمضان وسكت إلى الأبد بعد أن عبر رجال مصر قناة السويس وقوضوا الساتر الترابى واقتحموا خط بارليف وأقاموا رؤوس جسور على طول الشط الشرقى للقناة وألحقوا بالعدو الإسرائيلى أفدح الخسائر، وللمرة الأولى يكون لدينا أسرى إسرائيليون يعرضهم التليفزيون المصرى بعد أن كان أسرانا هم الفرجة! ويغنى محمد رشدى «ويّا أول خطوة فوق أرضك يا سينا.. كلنا من فرحنا م الشوق بكينا. بُسنا أرضك واحنا فى حضن الحنين.. واللقا نسّانا فين مصر الحزينة». ويبكى الطفل الذى لم يعد طفلاً مع غنوة رشدى ويستجيب لنداء الواجب بالتطوع فى المقاومة الشعبية دفاعاً عن مدينة السويس، ثم لا يلبث أن يبرأ من كل أحزانه، ولا تغير ثغرة الدفرسوار من إيمانه بقيمة النصر الذى تحقق على الوحش الإسرائيلى الذى هزمته عزيمة الرجال. وتمضى الحياة بحلوها ومرها، لكن يظل نصر أكتوبر نقطة مضيئة داخل نفسه يذكره كلما حاصرته الهموم والأحزان. واليوم وفى شهر النصر يأتى إلى بلدنا الاستعمارى المتعصب ديفيد أوين، وزير خارجية بريطانيا الأسبق، يريد أن ينزع من الطفل فرحته بالنصر ويعيده للأيام السوداء.. أيام شعبنا يوم الفداء وعدى النهار والمغربية جاية.. يأتى ليعلن من قلب القاهرة أن إسرائيل ألحقت بنا هزيمة منكرة فى حرب أكتوبر، وأن فرحتنا بالنصر لا مبرر لها، ذلك أنه لم يحدث! ألا لعنة الله على الاستعمارى العجوز ربيب الإمبراطورية التى لم تعد ترى الشمس. إن إسرائيل تصب الحمم على رأس من يشكك فى الهولوكوست بينما نسمح نحن للصهيونى البغيض بأن يأتى إلينا يريد أن يهز إيماننا بأروع عمل عسكرى قمنا به منذ معركة عين جالوت.