عشت عدداً لا بأس به من السنين أحلم برؤية فضيلة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى ثائراً جريئاً مقتحماً عنيفاً لا يخشى فى الله لومة لائم، ويقول للأعور يا أعور فى عينه، كتبت كثيراً عن تلك الأحلام التى شاركنى فيها ملايين المصريين، وعندما عشت لأشوف معهم تحقق ما حلمنا به، وجدنا فضيلته ثائراً جريئاً مقتحماً وعنيفاً ولكن بحق بنت من دور حفيداته، مارس فضيلته عليها ما دأبنا عليه جميعاً من اضطهاد للموصومات بالوحاشة وقلة الحظ من الجمال، وهو أمر إذا كان طبيعياً على أمثالنا الذين تربوا فى ظل مفاهيم مشوهة عن الجمال المستورد، فمن تمام المهزلة أن يشاركنا فيه رجل كان ينبغى أن نتعلم منه جميعاً معنى الجمال الإنسانى الحقيقى كما خلقه الله الجميل الذى يحب الجمال. أشارك فضيلة شيخ الأزهر موقفه الرافض للنقاب الذى أعتبره ليس فقط إساءة للإسلام ولكن إساءة للإنسانية نفسها (مثله مثل العُرى الفاحش الذى يحول المرأة إلى دمية فى سوق النخاسة)، ولو كان فى مصر دولة تعرف ما تفعله لحسمت مثل هذه الملفات من زمان، وأعلنت أن النقاب حرية شخصية لمن أرادت ولكن بعيداً عن المؤسسات التعليمية والحكومية، فلا نحن أفغان ولا خلايجة، حيث النقاب هناك سلو بلدهم أياً كان رأينا فيه، نحن فى مصر التى لم تكن العفة فيها أبداً مرتبطة بالشكل. لكننى أتمنى، وأنا أشارك فضيلته فى موقفه وأختلف معه فى شكل التعبير عنه، ألا ينسى فضيلته دوره الشخصى فى انتشار النقاب فى مصر، فلو كان الأزهر فى عزه وعنفوانه وتوهجه لما وقع غالبية المصريين تحت سيطرة التفسير الواطئ للإسلام الذى ينزع عن الفضيلة كونها مفهوماً لتتحول إلى شكل، ولما زاد الحجاب بينما نقصت العفة، ولما كثرت المساجد بينما قلَّ المصلون الذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر. حاشا لله أن أعظ شيخ الأزهر، أنا فقط أريد أن أهديه قصة جميلة قرأتها فى كتاب (مقهى الباب العالى) للكاتب التركى سرقان أوزبورن وترجمها المترجم السورى القدير عبدالقادر عبداللى، وهى تحكى عن استدعاء السلطان العثمانى سليمان القانونى لشيخ الإسلام فى عهده أبوالسعود أفندى قبل سفر السلطان إلى حملته العسكرية على النمسا.. كان السلطان السبعينى مريضاً ويشعر أنها ستكون حملته الأخيرة، وعندما مثل شيخ الإسلام فى حضرته وضع السلطان بيده صندوقاً صغيراً، وقال له: عندما أموت ادفن هذا الصندوق معى. ما تبقى معلوم لمتابعى التاريخ العثمانى. جيش مؤلف من مائة ألف جندى انطلق فى طريق زيغاتفار، وهناك أسلم السلطان روحه لبارئها. بعد عودة الجنود من الحملة، اجتمع العلماء وتحدثوا عن وصية السلطان أكثر مما تحدثوا عن موته، فحسب الشريعة الإسلامية يَحْرُم دفن شىء مع الشخص عندما يموت، والتصرف على غير هذا الوجه لا يمكن تسميته بغير الوثنية، وحاشا «القانونى» أن يكون وثنياً، دافع بعض علماء الحديث عن رغبة «القانونى» انطلاقاً من الحديث النبوى «يُحشر المرء مع من يحب»، وذكّر بعض الفقهاء أن حضرة السلطان شهيد، ويجب ألا يعتبر الشهداء كالموتى، وبينما كان علماء التفسير يناقشون أن كلمة «ادفن» لم تكن أمراً بل وصية، ناقش علماء الكلام أن كلمة صندوق هنا لا تعنى الصندوق بل التابوت، وفى تلك اللحظة دخل خادم مكلف بضيافة العلماء، فذكّرهم بتساؤل نسوه فى غمرة المكلمة: «ترى ماذا يوجد بالصندوق؟»، وبعد نقاش طويل حول حكم فتح الصندوق قرروا فتحه، ليجدوا فيه كومة من الأوراق اتضح بعد قراءتها أنها ليست سوى جميع الفتاوى التى أخذها السلطان من شيخ الإسلام حول كل ما فعله منذ جلوسه على العرش وحتى آخر يوم فى حياته. فى تلك اللحظة وقع شيخ الإسلام أبوالسعود أفندى فى حالة يأس شديد، وقرّب الصندوق منه، وبدأ ينظر فى أوراقه ليجد بها فرمانات إعدام شيخ ملامى إسماعيل المعشوقى، المعروف باسم «الشيخ الولد»، ومحيى الدين قرمانى، وحمزة بالى، والفتاوى التى أصدرها حول جواز قتل اليزيديين، وفتواه بتحريم الجلوس على المقاهى، وخرجت من فمه هذه الكلمات: «آه يا سليمان، أنت أنقذت نفسك، حسناً، ماذا سنفعل نحن؟». انتهت القصة، ولست أدرى هل ينبغى أن نتعظ منها بالشيخ الذى أدرك بعد فوات الأوان جرم تحويله الدين مطية للسلطان، أم بالسلطان الذى رحل وهو مهموم بهول السؤال يوم الحساب. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]