قبل أن أتخرج فى الجامعة عام 1960، قضيت السنوات الخمس التى عملت فيها بالصحافة المكتوبة متنقلاً بين صحف القاهرة ودمشق.. فى مصر عملت فى مجلتى «آخر ساعة» و«الجيل» اللتين كانتا تصدران عن دار أخبار اليوم، وجريدة «الجمهورية» ومجلة «التحرير» اللتين كانتا تصدران عن دار التحرير للطبع والنشر. وفى سوريا أمضيت عاماً بين جريدة «الأيام» وجريدة «الجماهير» اللتين كان يصدرهما البعثيون، وكان ذلك أيام الوحدة، وفى زحام العمل والدراسة غاب عنى الالتحاق بنقابة الصحفيين، ولم تتح لى الفرصة حتى لارتياد مبناها سوى فى شتاء العام الماضى، عندما عدت من دبى ولندن للإقامة فى القاهرة.. كان ذلك بمناسبة توقيع الصديق الدكتور عبدالحليم قنديل، منسق عام حركة كفاية، كتابه «كارت أحمر للرئيس»، الذى منعت إدارة النقابة إقامته فى قاعتها الكبرى، فاضطر الكاتب وضيوفه للاحتشاد فى الردهة المجاورة لمدخل المبنى. يومها بدأ يتكشف لى أن الأبواب تُغلق دون معارضى النظام فى كل أرجاء البلد، وأنهم نادراً ما يجدون مكاناً للاجتماع، أما الأماكن العامة، مثل النوادى الاجتماعية والفنادق، فهى مغلقة بالضبة والمفتاح بأوامر من مباحث أمن الدولة لا غيرها، حتى إذا ما كانت هناك ندوة فى رحاب «الروتارى» أو «الليونز» التى تحظر تناول السياسة.. وعندما تريد إحدى هذه الجمعيات أن تستضيف فى عشاء أو غداء لها إحدى الشخصيات العامة، كما هى عادتها، يطلب الفندق إبلاغه باسم الضيف، فإن أجازته المباحث كان بها، وإن كان ضمن قائمتها السوداء يعتذر الفندق بأن قاعاته مشغولة بأعراس أو أعياد ميلاد. فى المرة الأخيرة التى استضافنى فيها نادى «ليونز الفراعنة» منذ أسابيع قليلة اعتذر الفندق بحجة أن «مصر للطيران» استأجرته بالكامل لإيواء ركابها الذين تعطلوا عن السفر بسبب السيول، رغم أن شركة الطيران لم تستأجر فى الفندق غرفة واحدة لسبب بسيط هو أن مطار القاهرة لم يغلق ساعة واحدة، فكان أن نشرت «المصرى اليوم» الخبر تحت عنوان يقطر سخرية: «إلغاء ندوة لحمدى قنديل بسبب سوء الأحوال الجوية»، وتلا ذلك مقال للأستاذ خيرى رمضان اختتمه بقوله: «إن الأنظمة الخائفة الضعيفة المترهلة والعاجزة هى فقط التى تحتمى بالفكر الأمنى». لم تكن هذه هى المرة الأولى التى ألغيت لى فيها ندوة فى الشهرين الماضيين، إذ ألغيت لى ندوة سابقة فى نادى الجزيرة فى شهر نوفمبر، وكان العذر يومها هو «الاستعداد لاحتفالات عيد الأضحى»، وكأن النادى سيذبح فى قاعته خرافاً قبل موعد النحر بأيام.. ولكن الأنكى كان قبل سفرى من مصر عام 2004 عندما ألغيت لى محاضرة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة قبل انعقادها بساعات، وهو الأمر الذى استفز مضيفى الأستاذ الدكتور مصطفى كامل السيد، فنشر مقالاً تحت عنوان: «الجامعة ليست إدارة ملحقة بأمن الدولة» عقّب عليه الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة فى «الأهرام» بقوله: «إن التناقض بين الأقوال والأفعال سيجعل الإصلاح مزعوماً إلى أن تتضح النوايا». فى اليوم التالى على التو، أول أبريل 2004، وقعت عقداً مع تليفزيون دبى، حيث أقمت هناك نحو خمس سنوات، عدت بعدها لأجد الإصلاح لايزال مزعوماً وكل شىء على حاله حتى فى جامعة القاهرة التى طلبت إدارتها منذ أسابيع من الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، أن يبلغها بأسماء ضيوفه مسبقاً، بل إن الأمر وصل حد منع الفنان خالد الصاوى من حضور مسرحية فى كلية الحقوق، وهو أحد خريجيها.. وهناك روايات أخرى تلوكها كل الألسن بدءاً بمنع الروائى الشهير الدكتور علاء الأسوانى من حضور افتتاح فيلمه «عمارة يعقوبيان»، إلى منع ندوة الخبير الهندسى الكبير الدكتور ممدوح حمزة مع سيدات «الإنرويل»، إلى تلك النخبة من أبرز المثقفين فى البلد الذين التقوا مرة فى ناد شهير فى جاردن سيتى، فلما ذهبوا فى المرة التالية للعشاء أُبلغوا برقة بالغة أن زيارتهم الجماعية قد تكون مقلقة لباقى أعضاء النادى. يوم الثلاثاء الماضى استطاعت «الحملة المصرية ضد التوريث» أن تخرق هذا الحصار على المعارضة بعقد ندوتها عن «مستقبل الديمقراطية فى مصر» فى دار نقابة الصحفيين عندما تحمس لانعقاد الندوة الأستاذ صلاح عبدالمقصود، وكيل النقابة، والأستاذ محمد عبدالقدوس، مقرر لجنة الحريات فيها.. ولكن الثمن كان استضافة ممثل عن الحزب الوطنى، بدا حضوره نافراً وسط كوكبة المعارضين الذين تصدروا المنصة.. كان هناك الأصدقاء الأعزاء منسق الحملة الدكتور حسن نافعة، والفقيه الدستورى العتيد الدكتور يحيى الجمل، والدكتور عصام العريان، المتحدث باسم الإخوان المسلمين، وقطب حزب الكرامة الناصرى حمدين صباحى، والدكتور أسامة الغزالى حرب، رئيس حزب الجبهة الديمقراطية، والدكتور علاء الأسوانى الذى جلست بجانبه.. تحدثوا وتحدث آخرون، لعل أبرزهم كانت الكاتبة المناضلة الأستاذة سكينة فؤاد، وكانت هناك كلمة أيضاً للأستاذ عصام شيحة، عضو الهيئة العليا لحزب الوفد، أوحت - وإن على استحياء - بأن الحزب ربما يكون بصدد النظر فى التحالف الذى دعا له المجتمعون بين القوى الوطنية. عندما نودى الأستاذ مجدى الدقاق، مسؤول مكتب الإعلام فى أمانة الحزب الوطنى، لإلقاء كلمته شعرت بكثير من الرثاء له والإشفاق عليه وهو يواجه كل هؤلاء، ولكنى قدرت له جسارته فى أن يقف فى وجههم جميعاً ليقول إن حزبه هو الذى يدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية.. سرت همهمات فى القاعة وتعالت أصوات مستنكرة أخمدها منظمو الندوة، فأخذ الدقاق يدق نغمة الديمقراطية.. ولما جاء دورى بعده وجدت أن الأمر يحتاج إلى بعض إيضاح إذا كان «الوطنى» يدعى أنه أبو الديمقراطية، والآخرون - وأنا منهم - نزعم أنها هى أيضاً مطلبنا.. أخذت أفصّل فى كلمتى- فى حدود الوقت المتاح- بعضا من أسس الدولة الديمقراطية، التى نريدها.. وهاأنا اليوم، أستكملها فى صياغة صالحة للنشر.. نريد ديمقراطية بلا توريث، وديمقراطية بلا تمديد، وديمقراطية بلا تزوير.. نريد ديمقراطية تقوم على دستور يلبى طموحات الأمة، تنزع منه مواده الداعرة 76 و77 و88 لتتاح الفرصة لترشيحات رئاسية تعددية، وولاية لا تتعدى فترتين، وانتخابات بقاض لكل صندوق. نريد ديمقراطية يصوت فى انتخاباتها المقيمون والمهاجرون، وتدير الانتخابات فيها لجنة عليا مستقلة، تنقى جداول الناخبين، وتجرى التصويت بالرقم القومى، تحت رقابة شعبية ودولية. نريد ديمقراطية تنتمى الدولة فيها إلى أمتها العربية، تحافظ على صلاتها التاريخية بالدول الأفريقية، وتحفظ لمصر مكانتها ولشعبها كرامته فى الداخل والخارج. نريد ديمقراطية لا يُنتخب رئيس الدولة فيها بموافقة من أمريكا أو مباركة من إسرائيل.. ديمقراطية تملك قرارها ومقدراتها ومستقبلها. نريد ديمقراطية مدركة للمخططات الصهيونية احتلالا وعدوانا واستيطانا، لا تصدّر غازها أو تملّك أرضها فى سيناء للإسرائيليين، ولا تهدر دماء جنودها على الحدود. نريد ديمقراطية بلا طوارئ.. ديمقراطية لا تُنتهك فيها حرية المواطنين بأدوات التسلط والقمع والرقابة والتنصت، ولا يُكبل فيها الإعلام الرسمى والخاص، ولا تقيد فيها حرية المعلومات، ولا يحبس فيها الصحفيون، ولا يمنع فيها التظاهر السلمى، ولا يحظر فيها قيام أحزاب جديدة، ولا يضيق فيها على الحياة الحزبية وعلى أنشطة المجتمع المدنى ولا تفرض فيها الحراسة على النقابات. نريد ديمقراطية تحترم القانون.. ديمقراطية لا يحال فيها متهم مدنى إلى محكمة عسكرية.. ديمقراطية لا يعذب فيها المواطنون فى أقسام الشرطة.. ديمقراطية لا يعتقل فيها مواطن سوى بمسوغ من القانون «المناضل السيناوى مسعد فجر معتقل منذ سنتين رغم صدور 17 حكماً بإطلاق سراحه».. ديمقراطية لا تحتجز فيها الدولة مشتبهين فى سجونها الخفية لصالح المخابرات الأمريكية. نريد ديمقراطية لا تحتكر فيها السلطة أو تحتكر الثروة، ولا يتحالف فيها أهل الحكم مع أهل المال.. نريد ديمقراطية لا يعيش فيها المصريون عيشة الكلاب «كلام الدكتور أبوالمجد، نائب رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان»، غالبيتهم الساحقة تحت خط الفقر أو حوله، وقلة قليلة فى بروج مشيدة تستأثر بموارد البلد وخيراته، وتستولى على أراضى الدولة «وضعت المافيات يدها على 700 ألف فدان فى ال30 سنة الأخيرة وفق موقع اليوم السابع»، وتلقى بالملايين تحت أقدام النساء، وتهرب بأموال البنوك بعد ارتكاب جرائم النصب والتزوير والغش «كلام الدكتور أحمد البردعى، رئيس بنك القاهرة الأسبق». نريد ديمقراطية لا تبيع مصر، ولا تفرط فى الأصول العامة التى أقامها الشعب بعرقه عبر عشرات السنين، ولا تخدع الشعب بصكوك الملكية الوهمية.. ديمقراطية لا تصادر التاريخ، ولا تتاجر فى الآثار.. ديمقراطية لا يسيطر فيها الأجانب على الموانى، أو تستولى العصابات على مصايد الأسماك فى البحار والبحيرات، أو تبتلع شركات الأسمنت الدولية أرباحاً بالمليارات. نريد ديمقراطية بلا جباية، لا تفرض فلوساً على مسكن خاص أو إتاوات بفواتير الكهرباء والزبالة، ولا تجمع الضرائب دون أن يعرف الشعب أين تنفق.. ديمقراطية لا تبدد أموال أرباب المعاشات ومستحقى الضمان الاجتماعى «كلام ميرفت التلاوى». نريد ديمقراطية لا ينعدم فيها أمل الشباب فيهجروا قراهم إلى أوروبا فى قوارب الموت، ولا ينضم فيها 337 ألف شاب إلى طوابير العاطلين كل 3 أشهر، ولا تتزوج فيها بناتنا القُصَّر من عرب النفط. نريد ديمقراطية نجد فى ظلها تعليماً ونجد تربية.. ديمقراطية ترفع غشاوة الأمية عن 16 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون.. ديمقراطية لا يتسرب فيها 27٪ من أبنائنا من المدارس.. ديمقراطية لا تتراجع فيها مكانة الجامعات حتى إنها لا تذكر ضمن قوائم التميز فى العالم «الدكتور أحمد زويل: نحن قلقون على مستقبل التعليم فى مصر». نريد ديمقراطية تطبب المواطنين، وتحميهم من تفشى الفشل الكلوى والكبد الوبائى والسكر والسرطان، وتداويهم وفقاً لقانون تأمين صحى كفء لا يرهق كاهل الناس.. ديمقراطية تكفل إنفاق أموال الرعاية الصحية على المواطن وليس على يد نواب يحصل الواحد منهم بالتلاعب على قرارات علاج على نفقة الدولة قيمتها 10 ملايين جنيه فى الشهر «كلام الدكتور حاتم الجبلى». نريد ديمقراطية يشرب فيها الناس ماء نقياً لا يختلط بالفضلات والروث «38 مليون مصرى يشربون مياه الصرف الصحى» ولا يقتاتون بغذاء يُروى بمياه المجارى.. ديمقراطية تحمى مياه النيل، مصدر حياة المصريين، من التلوث إهمالاً وعمداً. نريد ديمقراطية لا تبدد الأرض الصالحة للزراعة فى توشكى والطريق الصحراوى والإسماعيلية والساحل الشمالى، فتمنحها للمستثمرين المغامرين أو لمقاولى القصور وملاعب الجولف، وتحمى أراضى الإسكان والأوقاف من المضاربين الراشين المرتشين، وتصون أراضى الضبعة لمشروع مصر النووى لا لحيتان السياحة ومنتجعات المترفين.. نُريد ديمقراطية بجهاز حكم كفء، يحصل فيه المصريون على حاجاتهم دون وساطة أو رشاوى، يضمن الحدود الدنيا من المرافق والخدمات، فلا تحرم القرى من الصرف الصحى (96٪ من قرى الشرقية لا توجد بها شبكات صرف صحى وفقاً لكلام المحافظ المستشار يحيى عبدالمجيد)، ولا تقام منشآت حكومية ومجتمعات سكانية على مخرات السيول، أو تتكدس القمامة فى قلب العاصمة.. ديمقراطية لا تخنقها الأزمات واحدة بعد أخرى، من انهيار مساكن فى العشوائيات، إلى حوادث قطارات وطرق، إلى غرق عبّارة، إلى طوابير خبز وبنزين وبوتاجاز.. نُريد ديمقراطية يعيش فى ظلها المسلمون والمسيحيون فى وئام لا تهدده فتن.. نُريد ديمقراطية تُحاسب الحكام، وتحاكم رجال الدولة أثناء توليهم المسؤولية، ويقدم فيها الكبار إقرارات الثروة وقوائم سداد الضرائب المستحقة. نُريد ديمقراطية لا يُقبّل فيها الوزراء أيدى أولى الأمر، ولا يعينون فى مناصبهم إلاّ عن جدارة، ولا يقالون دون جرم بلا إنذار أو إخطار، ولا تتغير فيها السياسات بتبدل الوزراء.. نُريد ديمقراطية يستحقها أبناء الوطن الذين يجب عليهم هم أنفسهم أن يتصدوا بكل قواهم الحية لهذه المهمة المقدسة من أجل نظام سياسى جديد قادر على تحقيق آمال الأمة.