يا سلام .. فعلاً أوحشتنا جداً يا توفيق يا حكيم يا صاحب الكلمة الراقية والفكرة البراقة والصياغة العبقرية، يا من سطرت لك اسماً فى تاريخ الأدب والفن والفكر المصرى وها أنت تسطع بيننا من جديد كلما أطلت علينا كلماتك وبرقت فى عقولنا أفكارك، أمسية مع السلطان الحائر وما كان بحائر حقاً فى مسرحيتك حلّقت بنا إلى أعلى وأعادت إلى خشبة مسرحنا هيبة ورفعته كثيراً وأضاعت تحت ركام الغث من النصوص الهزيلة. كتب الأديب الكبير توفيق الحكيم المسرحية عام 1959 ونشرها عام 1960، فى نفس السنة التى حصل فيها على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، بعدها بثلاث سنوات وعلى المسرح القومى قٌدمت المسرحية بأبطالها سميحة أيوب ومحمد الدفراوى وفاخر فاخر وأخرجها فتوح نشاطىء، وبعد خمسين سنة بالتمام والكمال وعبر عروض كثيرة لها داخل مصر وخارجها باللغات الفرنسية والسويدية والأذربيجانية تعرض علينا الآن نسختها الحديثة القديمة على المسرح الحديث. ونعود إلى عام 1959 عندما قرر توفيق الحكيم أن يكتبها، وقتها كان قد مضت سبعة أعوام على الثورة التى كانت قد رفعت ضمن شعاراتها الستة شعار بناء حياة ديمقراطية سليمة أو ديمقراطية قوية، على العموم لا فرق فلم تكن هناك حياة ديمقراطية قوية ولا سليمة ولا متينة فى الخمسينيات من القرن الماضى التى شهدت إضعاف البرلمان والسلطة التشريعية لصالح الرئيس والسلطة التنفيذية، وإلغاء الأحزاب، وتصدرت هيئة التحرير المشهد السياسى وكانت التشكيل الاول لما أعقبها من أشكال الحزب الواحد الحاكم والمهيمن. سيطر العسكر على كل مناحى الحياة وعلى كل المناصب فى الدولة وولدت فكرة ال99% فى نتائج الانتخابات وبدأ اللعب بالدستور، وانصرف الشعب طواعية أو كرها عن مضمار السياسة حيث لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، أو بمعنى أصح فوق صوت الحاكم والحكومة، وانزوى القانون وتآكل، وبرز سيف السلطة، وتأرجحت العدالة وتأكدت فكرة القوة. كان هذا هو الإطار السياسى للحياة المصرية فى الخمسينيات من القرن الماضى - اتفق معى البعض أو اعترض - وقت أن كتب توفيق الحكيم مسرحية (السلطان الحائر) فهل كان هذا المفكر بعيداً عما يجرى حوله فى بلده وبما كان يناقض فكره وأمله فى الثورة وفى تغيير حياة الشعب المصرى حتى ولو كان فى باريس مندوباً لمصر بمنظمة اليونسكو مطلعاً على أحوال الغرب متشبعاً بالثقافة الفرنسية، على وجه الخصوص، ثقافة الحرية والمساواة والاحتكام إلى القانون وهو رجل القانون. سُئل توفيق الحكيم وقتها عن مسرحيته الجديدة ومن أين استمد فكرتها أجاب بدهاء وذكاء (إنه هو هذا الصراع الدولى العتيق بين القانون ممثلاً فى هيئة الأممالمتحدة، والقوة الممثلة فى القنابل الذرية الهيدروجينية، أى القوة والقانون، المبدأ والسيف)، أسترجع هذه الإجابة الآن التى سطرها من حاور توفيق الحكيم وقتها حول مسرحيته ولا أملك إلا ابتسامة ماكرة هى الأخرى تميل إلى الاستنتاج الأول عن أصل المسرحية وفصلها والتى ربما قد أخفاها الأديب الكبير وقتها حتى يٌكتب لها الحياة فى النشر والظهور على خشبة المسرح. وقد أعدت قراءة مسرحية السلطان الحائر كاملة بعد أن شاهدتها مؤخراً فى شكلها الجديد على المسرح الحديث، وهى للمخرج المبدع عاصم نجاتى ومن اختياره، وأدوار البطولة بها للفنان القدير محمد رياض، والاكتشاف المبهر حنان مطاوع والفنانين الكبار مفيد عاشور وخالد جمال، أشعارها التى تعترض عليها الرقابة يومياً لمصطفى سليم وتصميم الديكور والأزياء لمحمود سامى والموسيقى والالحان لهشام طه. المسرحية عناصرها كلها جيدة ومتكاملة تعتمد بشكل كبير على الخطوط الرئيسية للنص الأصلى الذى كتبه الأديب الكبير توفيق الحكيم مع بعض الإضافات التى تشير فى البداية إلى أنها من حكاوى ألف ليلة وليلة ثم النقيض الذى يشير إلى رجل يشارك فى المسرحية يرتدى الأزياء الحديثة ويتحدث فى المحمول ربما ليقول أيضاً إن ما تطرحه المسرحية يصلح لكل زمان، وما تطرحه يتلخص فى حيرة سلطان بين أن يختار أن يحكم بالقوة والسيف أم بالقانون ومبادئ العدالة، قال له القاضى: ( لك الخيار يا مولاى السلطان، السيف يعطى الحق للاقوى ومن يدرى غداً من يكون الأقوى؟ فقد يبرز من الأقوياء من ترجح كفته عليك، أما القانون فهو يحمى حقوقك من كل عدوان لأنه لا يعترف بالأقوى إنه يعترف بالأحق). وعندما تردد السلطان فى الاختيار أضاف القاضى: (الآن ما عليك يا مولاى سوى الاختيار بين السيف الذى يفرضك ولكنه يُعرّضك وبين القانون الذى يتحداك ولكنه يحميك). واختار سلطان المسرحية (القانون) ورفض سيف السلطة، انحاز للمساواة وطبق مبادئها على نفسه رغم تحذير الموتورين وأصحاب المصلحة، تحدى نفسه والنفس أمارة بالسوء واختار أن يحتمى بالعدل فأنصفه العدل والحق، اختار السلطان وما احتار، صحيح أوحشتنا يا توفيق يا حكيم. [email protected]