فى الأسبوع الماضى، نشرت فى هذه الزاوية نفسها مقالاً تحت عنوان «مصر وحزب الله«؛ حاولت خلاله تشخيص أبعاد الأزمة الراهنة بين الجانبين، عبر استعراض تطورات العلاقات بينهما، وتحليل محطات التوتر الرئيسة، التى قادتهما إلى وضع صدامى لا يظهر له، فى الأفق، حل. والواقع أن ردود الفعل والتعليقات التى وردت على المقال كانت متنوعة ومتباينة بدرجة كبيرة، سواء بسبب الانقسام الأيديولوجى إزاء طرفى الأزمة وما يمثلانه فى إطار الصراع الدائر فى المنطقة وعليها، أو وفق السوية الفكرية والثقافية لصاحب التعليق والطريقة التى يختارها لمقاربته للأمور التى تقع فى دائرة اهتمامه، لكن الجميع أظهروا اتفاقاً على طرح سؤال مهم: «وما الحل، إذا كان ثمة حل؟«. نشر اللواء جميل السيد مقالاً فى صحيفة «السفير» اللبنانية، فى 16 أبريل الماضى، كتبه قبل أسبوعين من خروجه من محبسه على ذمة قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى الراحل رفيق الحريرى، عن أزمة مشابهة وقعت بين «حزب الله» والأردن فى العام 2002. قال اللواء السيد، الذى كان يشغل آنذاك منصب مدير الأمن العام فى لبنان، إن السلطات الأردنية ألقت القبض على ثلاثة من أعضاء «حزب الله»، بتهمة محاولة إدخال أسلحة بطريقة غير مشروعة إلى الضفة الغربية من خلال الأراضى الأردنية، لاستخدامها فى مقاومة اجتياحات رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك إيرييل شارون للأراضى الفلسطينية. وخلص إلى أن الأزمة كان من الممكن أن تتخذ منحى تصاعدياً، خصوصاً وقد استشعرت الحكومة الأردنية أن «حزب الله» يستبيح أراضيها، وربما يورطها فى أعمال تضر بالأمن القومى للبلد، الذى وقع معاهدة سلام مع إسرائيل، استرد بها أراضيه المحتلة، لكن جهداً سياسياً للحريرى وللسيد نفسه معاً أثمر اتفاقاً بين الأردن و«حزب الله»، أبقى القضية بعيدة عن الإعلام، وسلم «المقاومين» الثلاثة للحزب، مقابل ضمانات تعهد بها نصر الله، وقد التزم بتلك التعهدات وفق ما أكد كاتب المقال. على أى حال، وأياً كان مدى دقة ما خلص إليه هذا المقال المهم، فإنه يطرح خريطة طريق لحل الأزمة المتفاعلة بين مصر و«حزب الله». ويبدو أن هذا الحل يقوم على احتواء التصعيد الإعلامى من الجانبين، ووقف النشر فى القضية، وتقديم «حزب الله» اعتذاراً معلناً للحكومة المصرية عن «الإساءات» السابقة كلها، والتى بدأت على هامش العدوان الإسرائيلى على لبنان، وشهدت ذروتها فى العدوان الأخير على غزة، وبجانب هذا الاعتذار يقدم الحزب تعهدات بعدم تكرار هذه الممارسة، ويعرب عن صدق نواياه بتقديم معلومات استخباراتية متكاملة عن أبعاد تلك الشبكة وغيرها من الشبكات إن وجد. وتسلم الحكومة المصرية بعض عناصر الخلية للسيد نصر الله، وتفتح قنوات تفاهم بين الجانبين، ويُحقن الخلاف الراهن إلى أجل. والحاصل أن ثمة إشكالات تحول دون تفعيل هذا الحل على الرغم من كونه منطقياً ومجرباً فى واقعة سابقة مشابهة، ولعل أول هذه الإشكالات يكمن فى غياب الوسيط المناسب، والذى لا يمكن الوصول إلى التوافق من دونه. تبقى سوريا وقطر الدولتان الوحيدتان فى المنطقة العربية الممتلكتان لخطوط التواصل اللازمة مع الحزب، والقادرتان على التحدث وتقديم التعهدات باسمه، والدولتان تجمعهما بالقاهرة علاقات متوترة لا تسمح لهما بالوساطة. وتظل السعودية والأردن الأقدر على إقناع مصر بجدوى مثل هذا الحل وتمثيلها فى مراحل إعداد الاتفاق، لكن العلاقة بينهما و«حزب الله» تبدو فى أسوأ أحوالها، بما يحول دون لعبهما الدور نفسه. الإشكال الثانى يتعلق بكون مصر حاولت فعلاً حل المسألة ودياً، عبر استثمار الحدث سياسياً وأمنياً، من دون تصعيد إعلامى أو إعلان الأزمة ومعها الصراع المفتوح، منذ القبض على رأس الشبكة فى نوفمبر من العام المنصرم وحتى الإعلان عنها فى الثامن من أبريل الماضى، لكن «حزب الله»، على ما يبدو، اختار طريق الضغط المتتابع عوضاً عن محاولة تسوية الأزمة عبر تقديم تنازلات اعتبرها قاسية وغير مبررة. الإشكال الثالث الذى يعوق اعتماد حل الوساطة يتعلق بالاستراتيجية التى رأتها القاهرة صالحة لتحقيق أكبر منافع متاحة، عبر ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، واستغلال هذه الأزمة إلى أقصى درجة ممكنة. نشر الدكتور عبدالمنعم سعيد مقالاً مهماً فى «وول ستريت جورنال» الأسبوع الماضى، تحت عنوان: «مصر.. هدف إيران الجديد»، دعا فيه الرئيس أوباما إلى إلقاء خطابه الجوهرى المنتظر إلى العالم العربى من القاهرة، ل «يوصل رسالة صارمة إلى طهران فى ما يتعلق بأن الأمريكيين يقفون إلى جانب مصر فى سعيها نحو الاستقرار والسلام«. وبالطبع لم يجد سعيد أفضل من «كشف الخلية» للتدليل على الاستهداف الإيرانى لمصر ومعها السلام والاستقرار فى المنطقة فى آن. باستمرار الأزمة، فضلاً عن تفاقمها، تدفع مصر عن نفسها بعضاً مما قيل عن «مخاطر التشيع» و«الانبهار بإيران ونموذج المقاومة»، وتلين مواقف «حماس» فى حوار المصالحة الفلسطينية، وتؤثر فى الانتخابات اللبنانية لمصلحة الفريق الأكثر «رشداً وواقعية»، وتعزز مواقفها الخليجية، وتكيد لإيران التى أوجعتها كثيراً، وتكسب نقاطاً مرجحة لدى الولاياتالمتحدة هى فى أمس الحاجة إليها. حل الأزمة بين الدولة الكبيرة والميليشيا الفائرة ممكن، والطريق إليه معروفة، لكنه حل أقل منفعة لمصر، وأفدح تكلفة ل «حزب الله»، ولا يجد وسيطاً لائقاً يتبناه.