قبل أيام قليلة، قامت إدارة أحد السجون فى بريطانيا بتجميع علب الصابون السائل من الحمامات والمراحيض، فيما وصف بإجراء احترازى إلى أن ينتهى التحقيق فى واقعة تبدو طريفة. أما الواقعة فهى قيام أحد السجناء بشرب هذا الصابون السائل المصمم كخط دفاع أول للوقاية من أنفلونزا الخنازير، بعدما اكتشف أنه يحتوى على مادة كحولية «بتعمل دماغ عالى». كان معظمنا فى حاجة إلى هذا النوع من الصابون ونحن نتابع مسلسل «دماغكو فى اليونسكو»، كما كان معظمنا فى حاجة إليه ونحن نتابع جلسات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن لقّن الأخ القائد، ملك الملوك، العالم الغربى درساً فى الأدب (وفى الصبر)، ولقّن نتنياهو العالم كله درساً فى قلة الأدب (وفى المكر). ومازلنا فى حاجة إلى هذا النوع من الدماغ العالى، كى نستوعب درساً آخر أكثر ضرورةً وأكثر إلحاحاً، فبينما نقترب حثيثاً مما يصفه الخبراء بهجمة ثانية شرسة لأنفلونزا الخنازير مع قدوم الخريف، لابد أننا جميعاً نتساءل: ماذا لا قدر الله لو وقع المحظور؟ أين نتوجه؟ ومن أين نحصل على ذلك التاميفلو الذى يتحدثون عنه؟ وهل لمسألة كهذه أن تتحول فجأة إلى مسألة أمن قومى مثلما تحول غيرها لأسباب كان يمكن تجنبها؟ أثناء ظهوره على شبكة «سى. إن. إن» الأسبوع الماضى تحدث الرئيس الأمريكى باراك أوباما عن نفسه وعن أسرته فماذا قال؟ قال: «نريد أن نحصل على التطعيم؛ فهذا هو ما نعتقد أن علينا أن نفعل، ولكننا سنقف فى الطابور مثلما يفعل بقية الناس، وعندما يقولون لنا (الخبراء) إن الدور قد أتى علينا سيكون هذا هو الوقت الذى سيحين فيه دورنا». حاشا لله أن يفهم أحد أننا نقترح على الحكومة المصرية أن تقف مثلنا فى طابور، لكننا نتوقع منها على الأقل أن تقوم أولاً، بتوفير الحد الأدنى من جرعات التطعيم التى يمكن أن تواجه ولو نصف توقعات الخبراء لما سيحدث فى مصر على مدى الأسابيع والشهور القليلة القادمة. وثانياً أن تعلن (وأن تلتزم) بلائحة للأولويات، ترتب بشكل منطقى مَن يستحق أن يكون فى أول الطابور ومَن يمكن أن نطلب منه أن يستريح قليلاً فى الظل إلى أن يُنادى عليه. ولأن الشركة التى تحتكر عالمياً حقوق إنتاج لقاح التاميفلو تعترف بمحدودية قدرتها على إنتاج ما يكفى العالم كله (على الأقل حتى نهاية هذا العام)، فإننا أمام موقف صعب يمكن فى أى لحظة أن يتطور إلى موقف «يا روح ما بعدك روح»، يتحول فيه الذهب إلى تراب والتراب إلى ذهب. سينطبق هذا على مستوى الدول مثلما سينطبق على مستوى الأفراد. ومن أجل هذا سارعت الدول ذات الأنظمة الشفافة إلى إعلان لوائحها؛ ففى الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلاً ستكون الأولوية لهؤلاء الذين يقفون على خطوط المواجهة المباشرة كالأطباء والممرضات، يليهم النساء الحوامل، يليهن الأطفال وكبار السن، خاصةً أن منهم ذوى الظروف الصحية القابلة للتأثر. ورغم أن نهج وزير الصحة المصرى يتسم كما يبدو منذ بداية الأزمة بالشفافية، فإنه من غير المتوقع أن يقتصر دور الحكومة على مجرد مصارحة الناس بخطورة الموقف، وعلى «تخليص الذمة» بالإعلان يومياً عن حتمية وقوع المزيد من الإصابات، وعلى «غسل الضمير» بإرسال شكوى رسمية إلى الأممالمتحدة احتجاجاً على ظلم توزيع المصل المضاد للفيروس على جميع دول العالم. إن هذا كله جيد، لكنه أيضاً جانب من الواجب على عاتق الحكومة نتوقعه، لكنها إذا ظنت أن دورها يتوقف عند هذا الحد ستكون أشبه بالطبيب الذى فهم الحالة وقام بتشخيصها ثم تركها وحدها لمصيرها فى غرفة العمليات وهو يعتقد أن دوره قد انتهى.