هبط ملاكٌ من السماء فى بابل، ومعه هديةٌ أرسلها الربُّ لأفقر رجل فى العالم. ولم يكن هناك أفقرُ من الشحاذ «عاقى». رجلٌ عجيب يأبى إلا أن يتسوَّلَ لكى يعولَ فقراءَ الشعراء والفنانين، ثم يُلقى فى النهر ما يفيضُ من مال، حتى يظلَّ فقيرًا أبدًا، فلا يكفُّ عن التسول! أما الهديةُ السماوية فلم تكن إلا ملاكًا أنثى (مَلاكةً؟)، من أجمل ما يكون. هكذا أخبرتنا مسرحيةُ «الملاكُ يهبط فى بابل»، التى كتبها السويسرىُّ فريديريش دورنمات عام 1953. أما فى الديانة المسيحية فيُقال إن ملاكًا حارسًا يرافقُ الطفلَ بعد تعميده مدى الحياة ليحميَه ويؤازرَه. وفى اللغة العربية، كما فى معظم اللغات التى بها مذكّر ومؤنث، يأتى الملاكُ مذكَّرًا وليس مؤنثًا، وهو ما لم أفهمه أبدًا! إذْ يبدو لى دومًا أن القيمَ الجميلة فى الحياة لابد أن تكون مؤنثة! فى المهرجان العالمى للآداب فى برلين هذا العام، قرّر القائمون على المهرجان أن يخصصوا «ملاكًا حارسًا» لكلِّ أديبٍ مُشارك. يرافقُ الملاكُ الشاعرَ أو الروائىّ طوالَ فترة المهرجان، ويرتاد به كل ما يودُّ الأديبُ أن يراه من أماكن أثرية فى برلين. الروائىُّ مكاوى سعيد كان حظَّه ملاكٌ حارسٌ، أمريكية من أصول عربية اسمها «جبينا»، قالت إنه مؤنثُ «جبين»، بالعربية. وكان من نصيب الروائية منصورة عزّ الدين ملاكٌ تشيكية اسمُها «ملينا». أما الأديب المغربىّ ياسين عدنان فكانت ملاكُه يونانيةً اسمها «آماندا»، وقد أخلفت معه الموعدَ ليومين، فقرر معاقبتها وعدم مرافقتها. واستشارنا فى الأمر، فقمنا بتهدئة النفوس، ونصحناه بالصبر الجميل، ذاك أن الملائكةَ لا يُعاقَبون، ولا تجوزُ معاملتُهم من خلال كتالوجنا البشرىّ! لم يكن فى المهرجان أجملُ من ملاكى الحارس. أولاً: لأنها اختارتنى بالاسم قبل وصولى برلين، فارتقيتُ نقطةً عن بقية الأدباء المشاركين، الذين تمَّ تعيين ملائكتهم خبطَ عشواء بمحض مصادفةٍ غير مرتَّبة. وثانيًا: لأننى لم أكن لأختارَ أجملَ منها من بين كلِّ ملائكة الدنيا. وثالثًا: لأنها استقبلتنى بوردة فى باحة الفندق فورَ وصولى. ثم إن ملاكى الحارسَ لم يكن أمريكيًّا ولا أوروبيًّا ولا آسيويًّا، إن هو إلا ملاكٌ عربىٌّ أصيل، بل من أجمل البلدان العربية، وأَحبِّها إلى قلبى. ملاكى الحارسُ سوريّةٌ من ضيعة «مرمريتا» الساحرة التى تقعُ بين حمص وطرطوس وترتفعُ كثيرًا عن سطح البحر لتحفَّها الجبالُ الخُضر. اسمها «ميساء سلامة». كاتبةٌ ومثقفةٌ رفيعةُ الطراز، تعمل فى مجال تنسيق المعارض التشكيلية بين الشرق والغرب، وتعيش مع زوجها «راينر وولف» فى بيت فاتن تزيّن جدرانَه لوحاتٌ أصلية لفنانين سوريين وألمان، وقطعٌ نحتيةٌ لم أر بعد جمالها جمالا. بالبيت شرفةٌ دائرية تطلُّ على غابة تشبه قطعةً من الجنّة. تزرع ملاكى فى شرفتها زهورًا وخضراوات، أكلتُ من ثمرها حبّاتِ طماطمَ، لم تزل حلاوتُها على لسانى. زهورُ الأوركيديا البيضاءُ تملأ أركانَ البيت، ربما لأن ربّةَ البيتِ ذاتَها تشبه تلك الزهرةَ الفاتنة. وأنا، أُحبُّ اللهجةَ الشامية لأنها تنسالُ مثل موسيقى صافية: «هيك، شلون، ولو، لكان، بقطفلك بس ها المرة/ ها المرّة بس عابكره/ عابكره بس شى زهرة/ شى زهرة حمرا/ وبس»، فأعملُ على ألا تضيعَ منى كلمةٌ وهى تشرحُ لى مشيرةً بسبابتها إلى كنيسة «القيصر وليم»، التى غدا اسمُها الآن «كنيسة الذكريات» بعدما قصفتها قنابلُ الحرب العالمية الثانية. لم يُزلها الألمانُ ولم يرمّموها، بل ينفقون آلافَ اليورو كلَّ عام، لتظلَّ واقفةً على صدوعِها، شاهدًا أبديًّا على ويلات الحروب، علّ جيلاً جديدًا ينشأ لافظًا كلمة «الحرب» من معجمه. رافقتنى ملاكى طوالَ الوقت، وارتادت بى الكثيرَ من أماكن برلين الفاتنة، لكنها لم تذهب بى، رغم إلحاحى، إلى الجناح المصرىّ بمتحف برلين، حيث يقفُ فى كبرياء رأسُ نفرتيتى الفاتنُ فى نسخته الأصلية الوحيدة بالعالم! لابد أنها خافت لمّا قرأت فى عينى رغبةً شريرةً فى سرقة الرأس السليب، لأعيده إلى بلادى! [email protected]