نستطيع أن نصنف المضمون الذى يركز عليه «دعاة الفضائيات التليفزيونية» فى إطار أربع فئات رئيسية، أولها فئة المضمون الأسرى الذى يهتم ببحث مشاكل العلاقة ما بين الزوج والزوجة، والآباء والأبناء، والإخوة والأخوات. وثانيها فئة المضمون التفقيهى الذى يهدف إلى شرح بعض المسائل العقائدية وشؤون العبادات والمعاملات والأخلاق فى الإسلام، وثالثها المضمون التشخيصى الذى يهدف إلى عرض نماذج مضيئة من التاريخ الإسلامى، مثل شخصيات أنبياء الله وصحابة النبى صلى الله عليه وسلم، ورابعها المضمون الشبابى الذى يخاطب الشباب الذى يريد أن يجعل الدين جزءاً من حياته. ولكل فئة من هذه الفئات الأربع من المضمون دعاته الذين يعبرون عنه، وجمهوره الذى يرتاح له. ومن أبرز دعاة المضمون الأسرى أساتذة الأزهر الذين اشتهروا كدعاة تليفزيونيين، مثل الدكتور صبرى عبدالرؤوف والدكتور مبروك عطية والدكتورة سعاد صالح والدكتورة عبلة الكحلاوى . وهم غارقون فى الحديث عن المرأة التى تشتكى من زوجها لأنه تزوج عليها، والزوج الذى يعجز عن السيطرة على زوجته فيبحث عند هؤلاء عن حل أو توجيه دينى يمكن أن يؤدى إلى «شكمها»، أو الآباء الذين يعذبهم أبناؤهم ويقفون أمامهم عاجزين ويبحثون عن هؤلاء الدعاة من أجل نصح أبنائهم- الذين فشلوا فى تربيتهم- بطاعة الوالدين. وفى أغلب الأحوال يتم معالجة المشكلة المعروضة من وجهة نظر واحدة، هى وجهة نظر الشخص الذى يتصل (ويمثل طرفاً واحداً من أطرافها) ليتعلم الجمهور عدم الموضوعية، ويبالغ هؤلاء الدعاة فى طرح أفكار عامة قد تؤدى إلى نوع من التخفيف النفسى عن الشخص، لكنها لا تقدم اجتهاداً فى حل مشاكله. أما دعاة المضمون التفقيهى فيأتى على رأسهم عدد من الدارسين بالأزهر الشريف، لكنهم ليسوا أساتذة فيه، مثل الشيخ خالد الجندى. وهؤلاء الدعاة يمكن وصفهم بالشراح، واجتهادهم الأساسى يتمثل فى نقل ما تحتويه بطون كتب الفقه والأخلاق والعقيدة والتاريخ الإسلامى. وهم يتوجهون إلى جمهور متدين بفطرته، لكنه يبحث عن المعرفة، ويجد فى حديث هؤلاء الدعاة رافداً جيداً للحصول على معلومات فى موضوعات متنوعة، وإن كان كل شخص منهم يحاول نقلها بطريقته الخاصة، ويعتمد فيها أيضاً على مصادره الخاصة، ويختار المنهج التعليمى الذى يلقنه للمشاهد أو المستمع بمزاجه الشخصى. لذلك فما أسهل أن يختلط العقلانى بالصوفى، والتاريخى بالحالى، والشافعى بالمالكى، والشخصى بالموضوعى عند معالجة الموضوعات والقضايا الدينية التى يتصدون لهما. ويتناغم هذا الاختلاط فى التوجه مع حالة الاختلاط التى تميز مشاهدى ومتابعى هذا اللون من ألوان المضمون الدينى، والذين يجتمعون تحت مظلة الحصول على «حصة فى الدين». ويكاد يقف الأستاذ عمرو خالد وحده نموذجا معبرا عن المضمون التشخيصى الذى يعتمد على تقديم نماذج معينة من التاريخ الإسلامى ليشرح أبعاد سيرتها وجوانب حياتها، ويوضح - من وجهة نظره - بعض الدروس التى يمكن استخلاصها من تجربتها. وقد بدأ الأستاذ عمرو بحكى وسرد تاريخ حياة الصحابة رضوان الله عليهم، ثم انتقل بعد ذلك إلى قصص حياة أنبياء الله، عليهم وعلى نبينا السلام. ويستند عمرو خالد إلى منهجية تعتمد على الإبهار عند تقديم الشخصية، حيث يقدمها ككيان نموذجى لا يخطئ. وإذا صح هذا الأمر بالنسبة للأنبياء، فقد يكون عليه تحفظ بالنسبة للصحابة. فأنبياء الله مؤيدون بالوحى ومعصومون بقدرة الله، أما صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف على أنهم جميعاً عدول، وأنهم كالنجوم «بأيهم اقتديتم اهتديتم» كما جاء فى الحديث الشريف، وذلك فيما يتعلق بإيمانهم العميق، وعقيدتهم الراسخة، ودفاعهم المستميت عن النبى، وجهادهم الرائع من أجل الإسلام، لكن ذلك لا يمنع من وجود أخطاء بشرية معينة تتصل بأدائهم الدنيوى. ومن المتفق عليه أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر كانوا يجتهدون، ويقعون فيما يقع فيه المجتهد من خطأ أو صواب. وعمرو خالد محب، مثله مثل أى مسلم، للصحابة، لكنه عندما يتصدى لرواية حياتهم يعتمد على معالجة أحادية الاتجاه، تؤكد باستمرار على أنهم كانوا بشراً خارقين للعادة، وأنهم لا يخطئون أبداً، وبالتالى فهو لا يفرق ما بين المقام الدينى لهؤلاء السابقين الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم «ثلة من الأولين وقليل من الآخرين» والمقام الدنيوى الذى كان ساحة لاجتهاداتهم ورؤيتهم الشخصية التى كانت تصيب فى أحيان وتخطئ فى أحيان. والطريقة التى يتم تقديم هؤلاء الرموز بهم تنفى إمكانية تكرار وجود نماذج شبيهة لهم فى الحياة المعاصرة نظراً لامتيازهم وتفردهم. وهكذا يوفر «عمرو خالد» للمشاهد فرصة الاستغراق فى الخيال المضىء فراراً من الواقع المظلم، والعدو إلى التاريخ الزاهر هروباً من الحاضر المشوه. ونختتم بفئة الخطاب الدعوى الشبابى الذى يقدمه دعاة متعددون من أمثال معز مسعود ومصطفى حسنى. ويعتمد هذا الخطاب على فكرة «الاستمتاع بالحياة» مع ضمان الجنة . فالإسلام دين لا يتنافى مع العصرية، ومن الممكن أن تعيش مسلماً تقياً وأنت تستمتع بحياتك من خلال ارتداء «التى شيرت المستورد»، وبدلاً من إعفاء اللحية يمكنك أن تربى «سكسوكة» شيك وظريفة تعيش من خلالها «موضة» العصر، وفى الوقت نفسه تحيى سنة إسلامية. ومهما ترتكب من ذنوب فيمكنك أن تتخلص منها بالتسابيح والذكر والأدعية وبعض «الثوابات». فالتدين لا يعنى الاكتئاب بل هو استمتاع بالحياة وتصالح معها. ولا خلاف على أن الإسلام دين لا يحرم الإنسان من متع الحياة، لكنه فى الوقت نفسه يدعو المسلم إلى أن يكون نفسه، وأن ينتج ما يستهلكه، ويستهلك ما ينتجه، وألا يعتمد على صحة أو عقل غيره. فهذا الشباب المستهلك يعيش- فى الأصل- على إنتاج شباب ينتمى إلى مجتمعات أخرى تقدم له سبل المتعة ووسائلها. وقد كان أولى به أن يدعى إلى الإنتاج والخروج من دائرة الكسل الدنيوى إلى دائرة النشاط، لا أن نغرسه فى دائرة «الكسل الدينى»، من خلال تغذية مفاهيم قائمة على الاستسهال من منطلق أنك يمكن أن تضمن الآخرة وأنت لاهث تستمتع بما لم تنتجه، ثم تجلس ما بين فترات الاستمتاع لدقائق لتعبدالله وتذكره وتسبحه، وتضمن بذلك الجنة. ذلك هو «مضمون» الخطاب الذى يقدمه دعاة الفضائيات والذى يجعل رزقهم «مضموناً» لدى المشاهد!. وختاماً لهذه المجموعة من المقالات أقول: من كان له أذنان للسمع فليسمع.. أوعقل للفهم فليفهم!!.