على يمينك وأنت داخل إلى مبنى البرلمان الألمانى فى العاصمة برلين، تجد نقوشاً وأشكالاً غريبة، مرسومة بخط اليد على الجدار، وسوف تكون دهشتك بالغة حين تعرف، أن هذه الرسوم والأشكال كان الجنود الروس قد حفروها، عندما اقتحموا المدينة آخر الحرب العالمية الثانية 1945، فدمروها! لم يبق حجر على حجر فى برلين وقتها، ولاتزال بعض الكنائس والأبنية هناك مهدمة فى أجزاء منها إلى هذه اللحظة، وحين كتب الجنود الروس أسماءهم على الجدران، كانوا قد قصدوا أن يقولوا للألمان ثم للعالم، إنهم اقتحموا مبنى البرلمان، وأن فى هذا فى حد ذاته، ما يكفى من الإهانة لبلد فى حجم ألمانيا! الألمان بدورهم، أبقوا النقوش والأسماء كما هى، بل إننا قد فهمنا من مسؤول الزيارات الذى رافقنا فى أنحاء المبنى، أن الحكومات الألمانية المتتالية، منذ عام 45 إلى اليوم، قد حرصت على أن تدهن هذه النقوش والكتابات بمادة تحافظ عليها مدى الزمن، لأن ما جرى فى ظنهم جزء من تاريخ البلد، يجب أن يظل قائماً على مدى الزمان! وإذا كان هذا هو المبرر، الذى تسمعه كلما تساءلت وأنت تتطلع إلى كتابة محفورة على جدار من هذا النوع، أو إلى كنيسة انهدم نصف برجها الأعلى على الأقل ولايزال على حاله، فتقديرى أن هذا ليس هو السبب الحقيقى وراء الإبقاء على ما كان الروس قد ألحقوه، ومعهم جنود دول الحلفاء إجمالاً، فى ذلك الوقت، بألمانيا كلها، من أضرار هائلة حولت البلد فى تلك الأيام إلى خرابة حقيقية كبيرة! لا.. ليس هذا هو المبرر الحقيقى، حتى ولو سمعته فى كل مكان.. فالحقيقة أنهم يريدون أن يقولوا إن ألمانيا التى تم تكسيحها تماماً فى آخر الحرب، لم يكن لها أبداً أن تبقى على حالها، وأنها فى عام 2009، لا علاقة لها مطلقاً بما كانت عليه عام 45، وأن زائرها يكفيه أن يقارن بين كتابات ونقوش كهذه، فى مكانها وبين ما حولها من نهضة وصلت باليد إلى آفاق لا حدود لها فى كل اتجاه، بحيث أصبحت ألمانيا ثالث اقتصاد فى العالم، بعد الولاياتالمتحدة، وكانت إلى عام مضى هى الاقتصاد الثانى، لولا أن اليابان قد أزاحتها وحلت مكانها! ليس هذا فقط.. وإنما إذا كانت دول الحلفاء فى الحرب «الولاياتالمتحدة، والاتحاد السوفيتى، وبريطانيا، وفرنسا» قد صممت عند انتهاء القتال على أن تكون ألمانيا عدة ولايات وصلت إلى 16 ولاية، وكون كل ولاية شبه مستقلة عن الدولة المركزية، فإن هذا التقسيم الذى قصدت به الدول الأربع، أن تكبح جماح ألمانيا، وأن تجعلها تنشغل بمشاكلها، تحول بقدرة قادر، من نقطة ضعف ظن الحلفاء أنها سوف تلازم الألمان، إلى سبب من أسباب القوة العاتية التى وصلوا إليها حالياً.. فلا يربط بين الولايات ال16 إلا الدفاع، والسياسة الخارجية، واليورو كعملة وطنية، وكل ما عدا ذلك، مختلف بينها جميعاً، وكانت الحصيلة النهائية، أن كل ولاية تنافست مع المجاورة لها، على أن تقدم خدمة أفضل للمواطن فيها، وأن تكون الحياة فيها أرقى، وأنظف، وأهدأ، وأكثر راحة ورفاهية، وكانت النتيجة أنك يستحيل أن تجد مواطناً فى «بافاريا» فى أقصى الجنوب، حيث مصنع سيارات ال«بى. إم. دبليو» يفكر فى أن يأتى ليقيم فى برلين العاصمة، كما يحدث عندنا بين الصعيد والقاهرة مثلاً.. فلا شىء أبداً يدعوه إلى ذلك، لأن ما يجده فى بافاريا، يحسده عليه أهل برلين!!.. فما رأى الذين يتحدثون فى القاهرة عن قانون الإدارة المحلية هذه الأيام؟! خذوا الحكمة، ثم التجربة، من 16 ولاية ل28 محافظة لدينا لا أمل فيها ولا عمل!