تابعت مباراة منتخبنا مع الجزائر عبر القناة الفضائية الجزائرية. منذ البداية، تكلم المعلقان عن التأثير المفترض لمصر على حكام أفريقيا: عن الهدف ال«المشكوك فيه» الذى أحرزه فريقنا فى مرمى الكاميرون، ثم عن «محاولات لاعبى مصر للتأثير على الحكم». وعندما جاءت ال«بنالتى» اعتبراها غير صحيحة، ثم اعتبرا أن طريقة تسديدها كانت غير صحيحة هى الأخرى (وربما كان لهم بعض الحق فى ذلك، لأنه لا يجب التوقف فى أثناء تسديد ضربات الجزاء)، ثم اعترضا مرارا على أول كارت أحمر، ولم يعلقا على حادث هجوم حارس مرماهم على الحكم. طوال المباراة، لم يشر التعليق إلا بطريقة عابرة لمدى العنف الذى تخللها، خاصة من جانب الفريق الجزائرى. إنما، مع الكروت الحمراء المتكررة، تركز الكلام عن المؤامرة التى تدار ضد الفريق الجزائرى. وفى ظل توالى الأهداف، بدآ الحديث الصريح عن الحكم «الذى سيعتزل التحكيم نهائياً بعد كأس العالم»، الذى أضاع «تاريخه الممتاز» فى سبيل هذه ال«هدية» المقدمة للفريق المصرى، ربما فى سبيل «شقة على النيل» وغيرها من الرشاوى... وكان هناك كلام عن تواطؤ اتحاد الكرة الأفريقى (الذى يوجد مقره فى القاهرة). وقيل إن هذا ال«سيناريو» كله يبدو وكأنه مستوحى من «فيلم مصرى»، أى ما نسميه فى مصر ب«الفيلم العربى». شاهدت كذلك النهائى مع غانا على قناة الجزائر، وتكرر الكلام خلالها عن المهزلة المفترضة التى حدثت فى المباراة السابق، وعن صعود الفريق الجزائرى للمونديال، الذى يديره ال«فيفا» الشريف وليس ال«كاف» الفاسد. وبدأ التشجيع الواضع لما سموه «برازيل أفريقيا»، والتهليل لكل هجماته ال«رائعة». وعندما أحرز الفريق المصرى هدفه كان الصمت المكبوت الرهيب، حتى نسى المعلقون حتى النطق بكلمة «جول». وانتهت المباراة وسط فرحة مصرية عارمة قابلها حزن عميق من قبل معلقى التلفاز الجزائرى الرسمى. ولم تكن هناك أى محاولة حتى لإخفائه. ما معنى كل ذلك؟ إذا كانت من أهم مقومات القومية الحديثة، على حسب نظرية المفكر الأمريكى الراحل «كارل دويتش»، القدرة على التواصل والتلاقى المعلوماتى، والاتفاق العام بين أفراد الأمة الواحدة على أساسيات ما يجرى على أرض الواقع من أحداث، فإن تلك التجربة الكروية البسيطة تنفى وجود أمة أو قومية عربية على أرض الواقع- على الأقل بمفهوم «دويتش». فإذا اعتبرنا الإعلام العربى مقياسا لوجود هذا التواصل والتفاهم بين عناصر الأمة المفترضة، فلا شك أن معلقى الجزائر قد شاهدوا مباريات مختلفة تماما عن التى شاهدها المصريون، ولا شك أيضا أن السبب فى ذلك، إذا تابعنا تعليقاتهم، لم يقتصر على التعصب الكروى البحت. ونفس هذه الظاهرة يمكن تعميمها- وفى مجالات أخرى عديدة- عند متابعة قناة كالجزيرة مثلا، التى عادة ما تتكلم عن عالم مختلف جذريا من الناحية التصورية عن العالم كما يصور لنا فى مصر.. فأين اللغة المشتركة المؤسسة للأمة إذن؟ حتى فى ظل العصر الذهبى للقومية العربية، كانت المزايدات والصراعات الإعلامية من السمات الرئيسية المتحكمة فى الخطاب العربى، حيث انتشرت اتهامات التخوين والعمالة والتآمر... الخ. وكل ذلك كان، وما زال، فى سبيل قيادة «الأمة»... التى لم تتبلور من الأصل، فالأمم الحديثة قد تؤسس على العوامل التاريخية، لكنها فى الأساس نتاج لتواصل معلوماتى ومادى ناشئ فى العصر الحديث، لأنها ليست أشياء ميتافيزيقية مجردة وأزلية، ولا يمكن خلقها من خلال الخطابة والكلام العام عن التاريخ والمصير المشترك، إنما هى هياكل تعيش فى العالم المادى، وتتبلور فيه عندما تتهيأ الظروف العملية لوجودها فى عالم الواقع.. فماذا فعلت الأنظمة العربية لتسهيل ذلك؟ لا شىء تقريبا. فلا توجد حتى الآن حركة تجارية تذكر بين الدول العربية، أو تبادل سكانى، أو تواصل إعلامى قد يساعد على خلق الرموز المطلوبة لبناء لغة مشتركة لتفسير العالم. قد يعترض البعض فيقول: ماذا عن التاريخ المشترك والدين والثقافة؟ لكن هذه المقومات وحدها ليست هى التى تبنى الأمم الحديثة، إنما التصور المشترك لها، اللغة الفكرية المشتركة هى التى تبنى الأمم وليست اللغة اللفظية. ومن خلال الإعلام العربى- من قناة الجزيرة حتى قناة الجزائر، مرورا بالإعلام المصرى نفسه- نجد أن العوامل التى تبنى وتعكس التصور المشترك للعالم، المطلوبة لتبلور القومية الحديثة، غير موجودة، بل نقيضها هو الموجود.. أما الكلام العام عن التاريخ والدين والمجد القديم فليس له قيمة، لأنه لا يتطرق لتفاصيل الحياة الحديثه ليبنى نظرة مشتركة عملية لها. ما النتيجة فى النهاية؟ يمكن قراءة بعض جوانب تلك «النتيجة» من تداعيات معركة مصر والجزاير الكروية الأخيرة، أولاً: من خلال عملية تدمير حتى القدر المتواضع من التبادل الاقتصادى بين البلدين (من خلال تخريب مواقع الشركات المصرية بالجزاير)، التى نتجت عن الإعلام التحريضى؛ المستند للامعقول فى منطقه العبثى، الغارق فى مستنقع من الاتهامات السياسية الواهية، الصانع لنظريات المؤامرة (حتى فى مجال الكرة!)، التى تستخدمها الأنظمة كبديل للنقد والتحليل العقلانى، فى محاولة لإلقاء لوم الفشل تجاه أشباح مصطنعة. وأخيراً، وليس آخرا، يصل الحال حتى إلى الاحتفال بالهزيمة الثقيلة، إذا جاءت نتيجة «مؤامرة»، لأن الهزيمة فى هذا السياق تصب فى خانة ال«مقاومة». وكان هذا هو منطق مشجعى الجزائر، عندما تجمهروا فى الشوارع العاصمة طوال «ليلة الأربعة»، مناصرين فريقهم الكروى المقاوم للمؤامرة... التى كشفها إعلامهم الرسمى.