يترجرج الثدى المبتور أمامى كطبق الجيلى، دافئاً مازال منتصب الحلمة ينز دماً، كان حسين الممرض قد قذف به أمامى على الترابيزة وقبل أن يدخل إلى غرفة العمليات المجاورة ليواتينى بالحصاد، يشدد فى التأكيد علىّ ألا أنسى أن أدون اسم السيدة وعمرها على بلاستر وألصقه بإحكام كى لا يتوه بين أقرانه من الأثداء. أقوس أصابعى محاولا الإمساك بهذا الثدى الذى يبدو أنه لشابة صغيرة من لون حلمته الوردية، يفلت ويجرى على رخام الترابيزة كفأر مذعور مخلفاً نقطة دم تأخذ فى الامتداد شرقا وغربا حتى ترسم لوحة باتساع المكان. يد منتشية تداعب ثدياً نافراً، تتعرف على تضاريسه حتى تصل الرسالة بأنها لم تحس إلا الآن، والآن فقط، بأنها يد لذكر كامل الذكورة، ويتكور الثدى كقنفذ ليعلن للكون أنه الأنثى، فالأنثى مغفور لها كل شىء إلا أن يخجل ثديها وينزوى. فى الجانب الآخر من اللوحة المرسومة باتساع المكان يد مدربة تجز الثدى من جذوره حتى يواصل الجسد الحياة فيهتف المعجبون والمريدون حول الجراح النابغة: «الله مزيكا». دعوات أمى ذات الثدى الواحد لى بالتوفيق يتردد صداها فى المعمل، من المؤكد أنهم هنا وفى هذا المعمل بالذات، معمل الباثولوجى، أخذوا ثدى أمى ودونوا عليه الاسم الذى أخجل وتخجل الحكومة أن يدون فى بطاقتى الشخصية. منذ أن عُينت فى معمل الباثولوجى بمعهد الأورام وهو المختص بفحص الأنسجة المريضة وأنا أتلقى أعضاء مبتورة لا حصر لها من غرفة العمليات المجاورة، أشم فيها رائحة أمى تغطى على الفورمالين، أرى صورتها فى الجهاز الذى أقطع به مكان الورم إلى شرائح صغيرة، أراها فى العينات.. فى الصبغات.. حتى فى الحوائط المغطاة بالقيشانى الأزرق المقشر. رخام الترابيزة لم يعد يظهر من كثرة الأعضاء فمحصول اليوم وفير، فالرحم النازف كقبضة اليد الهزيلة يرقد إلى جانب الكبد المتليف الذى مثل قطعة الإسفنج المبتلة، الحنجرة التى تآكلت أحبالها الصوتية فصارت كماناً بلا أوتار تزاحم الخصية التى ودّع صاحبها الرجولة انتظارا للوداع الأخير، أعرف الآن أن «خوان ميرو» عندما بعثر تكويناته على اللوحة اقترب من الواقع ، نحن ننمّى غريزة الفرار وهو يعمق فن المواجهة، نحن ننظر بعيون جبانة أما «ميرو» فيشاهد بعيون مندهشة. منذ الصباح.. منذ خمس ساعات بالضبط وأنا أعمل، أصابنى الإعياء، فتقطيع العضو المريض إلى شرائح كالبسطرمة ثم تصنيفها لكى يستفيد منها الطبيب المعالج وطالب الكلية ودارس الماجستير والدكتوراه بعد حفظها وصباغتها، كل هذا يمنحنى إحساسا بالكهولة والجوع. مع رائحة الفورمالين النفاذة كنت أفضل دائما تناول سندويتشات المخ والكبدة المغموسة فى الشطة فى محاولة يائسة للتغلب على سريان الرائحة فى خياشيمى. ظلت أمى تخفى عنى هذا السر، سر الثدى الواحد، أخبرتنى أنها ستسافر إلى قريتنا لفترة قصيرة، إلى أن اكتشفته بالصدفة حين شاهدتها ذات يوم تخفى مخدة خيّطتها بحجم الثدى، راقبتها بعد ذلك فوجدتها تثبت هذه المخدة تحت السوتيان، أمى فى قمة الإتقان حتى وهى تحاول تشكيل ثديها القطنى الجديد، بعدها بأيام سألتنى: - مش شكلى كده فى الخمار أحسن؟ وأسرع أبى بالإجابة قبلى: - كده وقار وحشمة واختنقت بالبكاء الصامت. نبّهنى صوت الجراح الخارج من غرفة العمليات وهو يقول بثقة: «الحمد لله ما حدش كان مصدق إنى هاشيل كل البلاوى دى فى الوقت القياسى ده».. قالها وهو يشير إلى الأعضاء المتناثرة أمامى على الترابيزة ثم خرج سريعاً حتى لا يرد على أسئلة أقارب المرضى. سألنى أحد هؤلاء الأقارب: «إيه أخبار العملية؟». أجبت بسرعة حتى لا أرتبك: «اطمن العملية نجحت».