فى كلمات قليلة يمكن إيجاز المادة الإعلامية المقدمة فى رمضان على مدى الأيام العشرة الأولى من الشهر الفضيل، بأنها عبارة عن «مساحة إعلانية ممتدة تعرض خلالها مجموعة من المسلسلات متفاوتة القيمة».. إعلانات قبل المسلسلات وأثناءها عبر عدد غير قليل من الفواصل وبعدها.. بالطبع يستطيع أن يتفهم المرء أن نسبة المشاهدة خلال رمضان تكون فى أعلى معدلاتها، وبالتالى من المنطقى أن تزيد المساحة الإعلانية، ولكن أن تطغى المادة الإعلانية إلى الحد الذى يتكرر فيه الإعلان الواحد ثلاث مرات (أحيانا أكثر) فى الفاصل الإعلانى الواحد (أكرر 3 مرات فى الفاصل الإعلانى الواحد)، فهو أمر لا يمكن أن يكون طبيعيا بأى حال من الأحوال.. والغريب أن الغزارة الإعلانية التى نراها فى مصر تقابلها سياسة انكماشية لضغط النفقات اتبعتها غالبية الشركات فى كثير من الدول عقب الأزمة المالية فى عدد من البنود.. من ضمن البنود التى طالها التخفيض بند الإعلانات، الذى وصل إلى 30% فى شركات وبلدان كثيرة.. وهو ما يحتاج إلى تفسير.. كيف يكون هناك اتجاه عالمى لتقليص الإنفاق الإعلانى، بينما نجد العكس تماما لدينا.. أليس أجدى أن نوجه جانبا من ميزانية الإعلانات إلى دعم الصناعة ذاتها أو لاستيعاب فرص عمل إضافية أو على الأقل من عدم تقليل رواتب البعض أو الاستغناء عن البعض الآخر كما حدث فى عدد من الجهات. (2) من جانب آخر، لابد من التنبيه على أنه لا توجد مادة إعلامية محايدة.. أى أن من يتصور أن هذا الكم المذهل من الإعلانات، الذى يعرفه البعض علميا ب«الإغراق الإعلانى» لا ضرر منه.. فإننا نقول إن هذا «الإغراق» يحمل تأثيرا ضارا على عقول المشاهدين وبخاصة الأطفال.. فهناك دراسة مهمة فى هذا المقام تقول بأن الأطفال يتعرضون ل«إثارات معقدة نفسية وعصبية وذهنية وجسمية» بسبب الإعلانات.. وتزداد الإثارة بقدر ما يزداد عدد الإعلانات من جهة، وبقدر ما تتقدم الإعلانات تقنيا من جهة أخرى.. وعليه تزداد الرغبة المتزايدة لدى الأطفال، التى لا يمكن كبح جماحها ومن ثم الامتلاك والاستهلاك.. وهناك اتفاق على أنه كلما زاد الإغراق الإعلانى زادت الرغبة الاستهلاكية.. إنها صناعة ثقافة الاستهلاك بامتياز.. ليس هذا فقط بل الأخطر أن الإعلان يخلق عالما غير حقيقى لدى الأطفال.. فمع كثرة تقديم منازل فاخرة تحيطها الخضرة وحمامات السباحة وملاعب الجولف يصبح هذا هو العالم وفى نفس الوقت تتشكل تصورات عن العالم غير صحيحة مصدرها الإعلان لا الواقع.. إنه «التلاعب بالعقول» (بحسب هربرت شيللر أستاذ مادة الاتصال الأمريكى فى كتابه المرجعى المهم «المتلاعبون بالعقول»). (3) وإذا ما اقتربنا أكثر من الإعلانات المقدمة فإنه بالرغم من التقدم التقنى الذى شهده عالم الإعلانات والأجهزة الإلكترونية القادرة على التصميم.. فإننا نجد الأفكار المقدمة قديمة وتؤسس لقيم وأفكار تقليدية.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد إعلانا لأحد المرطبات وقد كان- فى الأغلب- يرتبط بقيمة البطولة الرياضية، فإنه فى مجموعة الإعلانات التى يقدمها- الآن- يرتبط ب»الأنتخة» والاسترخاء والراحة أمام مشاهدة المسلسلات.. وفى إعلان لأحد البنوك (ولا أدرى لماذا هذا الإسراف فى إعلانات البنوك بشكل عام) لدعم المشروعات الاستثمارية الصغيرة نجد الإعلان يروّج لمشروع المشغل، وهو مشروع يعرف جيدا من عمل فى مجال التنمية مبكرا أنه لا يمكن التوصية به فى عالم اكتسحت فيه الملابس الجاهزة رخيصة الثمن المستوردة من الخارج وبخاصة من الصين.. بل حتى قبل الهجمة الصينية، فإن الخبرة تقول إن هكذا مشروعات كانت تواجه مشاكل فى التسويق وفى التطوير، بيد أن الإعلان يصور أنه المشروع المثالى الذى يمكن أن يتم الترويج له، ولا أدرى هنا هل المسؤولية تقع على عاتق المعلن أم مصمم الإعلان على اختيار المشروع.. يضاف إلى ما سبق كثرة التفوه بألفاظ غير مقبولة.. كذلك تغيير كلمات الأغانى الشهيرة التى شكلت وجدان أجيال من المصريين ووضع كلمات إعلانية بدلا من الكلمات الأصلية. الحديث يطول عن الإعلانات وطغيانها.. وما أحوجنا إلى التعود على مشاهدتها بعين ناقدة.