لمحةٌ واحدة تكفى لتستنتجَ كثافةَ عدد الأطفال فى هذا الشارع، أوذاك. ولمحةٌ أخرى تُخبركَ عن متوسط أعمار هؤلاء الأطفال، أو إنْ كان من بينهم صِبْيَةٌ أكبرُ سِنًّا. أحبُّ هذه اللعبةَ فى رمضان. لعبةَ التجوّل فى شوارع القاهرة، والحدس بأعمار أطفالها، دون الحاجة لأن أراهم. رمضانُ فى مصرَ لا يشبهه رمضانُ أيةِ بقعةٍ من بقاع الأرض. هو فى مصرَ أجملُ وأكثرُ ثراءً. يعرفُ المصريون كيف يخلقون من مناسباتِهم الدينيةِ طقوسًا دنيويةً مبهجةً، فيغنمون المتعةَ الروحية والاجتماعية فى آن. ويعرف الأطفالُ المصريون كيف يجعلون شوارعَهم تختالُ ألوانًا وفرحًا فى رمضان، حتى لتكادَ ترى الشوارعَ والحوارىَ والأزقّةَ تضحكُ، وإنْ أصختَ السمعَ، سوف تسمعُ هذا الشارعَ يقول: «لدىّ أطفالٌ كثيرون يغسلوننى بالفرح. فى هذا البيتِ وحدَه سبعةُ أطفال، بنتان وخمسةُ أولاد، وفى البيت ذاك الذى على الناصية توءمان فى الصف الرابع، وفى الدور الثالث من تلك العمارة العالية ولدُ وبنتٌ، هم جميعهم مَن رسموا صفحتى بالألوان. حين أبصرتُهم يجهّزون بكراتِ الخيط، وقصاصاتِ الورق الملوّن، ومحلولَ النشا والصمغ، أدركتُ أن شهرَ رمضانَ سيطرقُ البابَ بعد برهة. أطفالى كما ترون صغارٌ، لذلك مدَّدوا بين نوافذى خيوطًا مشبوكا بها مثلثاتٌ من الورق الملون، ثم علّقوا بينها فوانيسَ صغيرةً من الورق المقوَّى. الحارةُ المجاورة لى، لديها صِبيانٌ وبناتٌ أكبرُ عمرًا، قدروا أن يصنعوا ذلك الفانوسَ الضخم بعيدان الخشب والخيزران وشرائح الزجاج الملون والكرانيش الكوريشة. بعد عام أو عامين سوف يكبرُ أطفالى ويصنعون لى فانوسًا أكبرَ من ذلك الذى تتيه به خُيلاءً جارتى الحارةُ الضيقة!». شوارعُ مصرَ فى رمضانَ لا تعرفُ شيئًا عن الأزمة الاقتصادية العالمية، شوارعُ مصر تُصِرُّ على الفرح رغم الفقر ورغم العَوَز ورغم الأوبئة والمرض والفساد الضارب فى الشارع السياسى. تجّولْ فى أرجاء مصرَ لتكتشفَ أن البسطاءَ هم القادرون أكثرَ على صناعة الفرح! هم المُصِرّون أكثرَ على عدم التفريط فى بهجةٍ ينتزعونها انتزاعًا من فمِ غول شرس اسمُه العَوَز. أبناءُ الشارع الأرستقراطيّ سوف يشترون زينةَ رمضانَ جاهزةً من محال الزينة. رقائقُ من البلاستيك زاهيةُ الألوان. فيما رمضانُ يكون أكثر فرحًا فى الحارات الفقيرة. لأنه يحبُّ أن يصنعَ أطفالُها زينتَه بأيديهم. رمضانُ لا يحبُّ الملابسَ الجاهزة. أبناءُ الحارة الفقيرة سيجمعون قروشهم القليلة لشراء بعض الصمغ. ثم تجود كراساتهم وكتبهم القديمة بأوراقها، ويقومُ مقصُّ إحدى الأمهات بمهمة تحويل تلك الأوراق إلى مثلثاتٍ ومربعاتٍ ومعيّناتٍ ودوائرَ، وسوف تمنحهم إحدى الأمهات الأُخَر بكرةَ خيط باقيةً من خياطة كسوة لحاف قطنى، (ينام الآن فوق الدولاب انتظارًا لفصل الشتاء)، وربما تتبرع أمٌّ أخرى بكيس نشا، كانت تدخره لصناعة بعض أطباق الأرز باللبن لصغارها. زرتُ العديدَ من بلاد العالم العربى فى رمضان. رمضانُ هناك صامتٌ وخامدٌ لا يختلفُ عن بقية شهور العام. رمضانُهم لا يشبه رمضانَنا. رمضانُنا حىٌّ يتكلمُ ويغنّى ويزغرد. الشارعُ المصرىّ يعرفُ كيف يستقبلُ شهرَ الصوم بما يليق به. لذلك يحبّنا رمضانُ ويحبُّ أماسينا وسهراتنا. يحبُّ صوتَ محمد رفعت حين يرفعُ الأذانَ وقت المغرب، بعدما يتأكد أن كلَّ الشوارع قد انفضَّ الناسُ عنها، ليتحلّقوا حول أكواب الخُشاف على موائد الإفطار، وبعدما ينطلقُ المدفع من قنوات الإذاعة المصرية. صوتُه العميقُ الآتى من مسارب الجنّة يجعلُ الزمنَ يتوقفُ، والأرضَ تسكنُ عن دورانها. الأرضُ تنتبه أن تلك اللحظةَ ليس من شبيه لها فى الدنيا بأسرها. لأن لا مكانَ بكل الدنيا أنجبَ صوتًا يشبه صوتَ سيد النقشبندى حين يقول: «مولاى إنّى ببابكَ قد بَسَطتُ يدى، مَنْ لى ألوذُ به إلاكَ يا سَنَدى؟». [email protected]