ظهر فى الحياة الثقافية فى مصر منذ فترة تقليد نقلناه عن الغرب، متمثل فى إقامة حفلات توقيع للكتب الجديدة بالمكتبات، وفيه يلتقى الكاتب بقرائه وجهاً لوجه. ساهم فى بزوغ هذه الظاهرة فتح مكتبات حديثة بالقاهرة والإسكندرية على النسق الغربى تسمح للزائر بالجلوس وتصفح الكتب، وتناول الشاى أيضاً. وكان من حظى أننى دعيت مرات عديدة للقاء القراء فى حفلات توقيع بتلك المكتبات الجديدة، وهو الأمر الذى منحنى سعادة لا حدود لها. فى الأسبوع الماضى كنت على موعد وحفل توقيع فى مكان غريب أشد الغرابة أو هكذا تصورته فى البداية. دعانى الصديق طارق قنديل صاحب مكتبات «المركز المصرى الأمريكى» لحفل أقامه فى أحدث فروع مكتباته على ضفاف البحيرة الصناعية فى بورتو مارينا!. وطارق قنديل هو شاب مصرى عاشق للكتب قضى جانباً من حياته بالولايات المتحدة ثم عاد للإسكندرية، ليبدأ سلسلة مكتباته، وآخرها على شاطئ القرية السياحية الأشهر فى مصر. حرصت على الحضور فى الموعد المتفق عليه، ولكن عطلنى تكدس الطريق الساحلى بالسيارات المتوجه أصحابها لحفل تامر حسنى. وصلت لأجد مجموعة من القراء تنتظرنى بالمكتبة وبدأت السهرة فى التاسعة مساء ولم تنته إلا فى الفجر!. كنت سعيداً للغاية لأننى وجدت من بين زوار مارينا مجموعة من الشباب الجميل الممتلئ بالحب والحماس لهذا الوطن والمتابعين الجيدين للكتب، ولكن استرعى انتباهى أن من بين من حضروا بعض تلامذة الثانوى وأغلبهم لا يقرأون بالعربية، وقد عرفت منهم أنهم لا يدرسون «عربى» فى المدرسة بمصر! لكنهم يودون شراء الكتاب لأن عنوانه كووووول جداً!. وأقبل جمع من الفتيات الجميلات يتحدثن مع بعض بالإنجليزية وتشجعت إحداهن وأخذت نسخة طلبت توقيعى عليها. شعرت بسعادة وسألتها: هل ستقرئينه حقاً؟. أجابت بلكنة أمريكية: لا.. سأهديه لأبى. بعدها حذت حذوها بقية الفتيات وقد قررت كل منهن أن تشترى نسخة ثم تفكر فى شخص عزيز تهديها له!. كان من بين الحضور عدد من الزوار العرب من السعودية وسوريا والسودان، وهؤلاء أرهقونى وأسعدونى فى الوقت نفسه بالأسئلة عن توقعاتى لما تحمله الأيام القادمة لمصر التى يحبونها ويخشون عليها. وقف بجانبى رجل تدلى كرشه أخذ يقلب فى الكتب باستخفاف ثم سألنى متهكماً: هل تتوقع أننى حضرت إلى هنا من أجل القراءة؟. ابتسمت له فى ود ولم أعرف بماذا أجيب. زاد فى إلحاحه: أنا أريد منك إجابة.. هل تعتقد حقاً أننى أتيت إلى هنا لأوجع راسى بقراءة الكتب؟ نظرت إليه وقد ضايقتنى سماجته وقلت: فى الحقيقة أنا لم أفكر فى أسباب حضورك لكنى أعدك بدراسة الموضوع. لم يتوقف وازدادت رزالته: الناس هنا تأتى من أجل الترفيه وأنت تريد أن تعكنن عليهم بالكتب والقراءة!. قال هذا وأمسك بأحد الكتب ثم وزنه فى يده وألقاه على المنضدة فى جلافة. نظرت إلى الناس حولى فوجدتهم مشمئزين من الجاهل السخيف. قلت له وأنا أنظر إلى كرشه العظيم: يا أستاذ أنا لا أعتقد أنك تقرأ، لا هنا ولا فى أى مكان، كما لا أعتقد أنك أتيت للسباحة أو ممارسة الغطس، وأدرك أن وجودك داخل مكتبة يضايقك ويضغط على أعصابك، كما أظن أن أوقاتك الجميلة تقضيها فى مسمط خمس نجوم من تلك التى نشأت بالفنادق الكبرى لتلبية احتياجات أمثال سعادتك من الممبار والأباوة والسمين، ولعلمك أنا أعرف الكثيرين ممن يحبون لحمة الراس مثلك لكنهم ياللعجب يقرأون أيضا. تعالت الضحكات فخرج الرجل مهزوماً وهو يغمغم بكلام غير مفهوم. عدت إلى المناقشة مع السيدات والسادة الذين تزايد توافدهم، ولكن قطعها هذه المرة صوت حريمى خشن يعلو معترضاً. نظرتُ إلى صاحبته فوجدتها تشبه إله الشر عند الرومان رغم تأنقها الشديد!. سألتنى فى حدة: أنت مؤلف هذا الكتاب؟ قلت: نعم. قالت: وكيف سمحت لنفسك أن تقول عن مصر إنها ليست أمك؟ إن مصر هى التى تتبرأ منك!. لم تمهلنى للرد وإنما فتحت ماسورة مما تروى منه الخضروات فى الحوامدية: ولماذا تبقى فيها إن كانت لا تعجبك؟ ما تفارقنا يا أخى! إن مصر هى أجمل بلد وحكام مصر هم أحسن حكام، وهذه الحكومة مهما فعلت من أجلكم فلن ترضوا عنها لأنكم نماردة متبطرون، كما أن رجال الأعمال الذين تنتقدهم فى كتاباتك هم بناة مصر الحقيقيون.. ثم زاد انفعالها وهى تقول: كفاكم حقداً وإساءة لوطنكم!. كان شعورى بالقرف منها شديداً فتركتها وخرجت، وخرج معى مجموعة من الشباب فسروا لى الأمر وقالوا: إن هذه السيدة هى زوجة فلان اللص الكبير، وهى كغيرها من زوجات اللصوص مدينة بكل النعيم الذى تعيش فيه لحالة الفساد التى تسيطر على البلد، وهى تخشى أن تنصلح أحوال مصر ولو قليلاً حتى لا تفقد العز والهيلمان، والسيد زوجها مرشح لتقديمه للمحاكمة ضمن كوتة الأشخاص الذين يتم التضحية بهم من حين لآخر كدليل على الطهارة والشفافية.. وهذا سر عصبيتها. وقد طلب منى الشباب أن أعذرها.. فعذرتها!.