ظهور الجهاز المركزى للمحاسبات فى غير موعد الميزانية ليس فأل خير أو شر، لكنه حدث لافت على أى حال، مثل ظهور هلال رمضان مرتين فى العام. هى محض مفاجأة، وسوف يتعامل كل منا مع التجلى المفاجئ للجهاز حسب إيمانه، فمنا من سيتمنى أن تكون السنة كلها محاسبات، وبيننا من يتمنى لو أن المكلفين بالرؤية لا يجدون الهلال أبداً! وأياً كانت مشاعرنا تجاه ظهور جهاز المحاسبات، فى قضية الخضروات المروية بماء المجارى فى «الصف» فإن الظهور بحد ذاته يؤكد أن هذا الجهاز لا يغادر كبيرة ولا صغيرة فى مصر إلا أحصاها، لكن المشكلة أن رد الفعل على تقارير الجهاز تنقله من جهاز محاسبة إلى جهاز إحصاء للخطايا، ليس إلا. عشرات الآلاف من الصفحات البيضاء الثمانين جراماً المستوردة يسودها الجهاز سنوياً، يدججها بالاختلاسات وأوجه الإنفاق السفيه وغير المسؤول، ويرسل بنسخ منها إلى كل من يهمه الأمر (هل هناك من يهمه أمرنا فعلاً؟!) ثم تمر الموازنة بلا محاسبة على ما فات ولا تحوط لما هو آت، فترتكب المخالفات ذاتها، وتصدر التقارير ذاتها فى الميزانيات التالية. وليس هناك ما يثير الاستغراب فى انعدام نفع التقارير، فالجهاز ليس لديه شرطة وليست لديه صلاحيات سجن أو حتى عزل الوزراء، والمجلس المنوطة به المحاسبة ليس مجلسنا، والنائب الذى انتخبناه نسيب الحكومة، لكن الغريب هو مداومة الجهاز على إصدار التقارير على أوراق مستوردة صنعت من أشجار غابات مروية بماء نقى، وهو ما يساهم فى زيادة التصحر على كوكب الأرض ومفاقمة ظاهرة الاحتباس الحرارى التى ستعود على المواطن المصرى بأضرار تفوق أضرار أكل القثاء والطماطم المروية بماء المجارى فى الجيزة، وذلك لأن الاحتباس الحرارى يعم على كل سكان الكوكب، بينما لا تصل خضروات الصف إلى سكان أسيوط أو سوهاج أو أسوان! اتضح من التقرير الذى كتبه الزميل علاء الغطريفى فى «المصرى اليوم» السبت الماضى أن جهاز المحاسبات كان لابداً فى الذرة المروية بالمجارى، وكان مطلعاً على كارثة الرى غير المطابق للمواصفات، لأن فكرة زراعة هذه المنطقة قامت أساساً على خلط ماء ترعة عذبة بماء المجارى المعالجة، فإذا بالترعة العذبة لا تعمل وإذا بمعالجة المياه تتم بدون ذمة، فكانت النتيجة أننا أكلنا الخراء، ولو من خلال وسيط نباتى أو حيوانى نال حصته من القرف والمرض قبلنا. وقد ذهبت تقارير المحاسبات، كالعادة، إلى كل جهات اتخاذ القرار ومراقبة اتخاذ القرار على مدى سنوات، ولم يتحرك أحد، وليس لدى الملط سلم يصعد به إلى السماء، لكنه كان بوسعه أن يفعل شيئاً آخر! كان يستطيع، وهذا اقتراح جاد، ألا يسوّد الأوراق البيضاء عالية الجودة وأن يوزعها بيضاء بغير حبر، بالعدل على سكان الجيزةوالقاهرة (الزبائن المحتملون لخضروات الصف) يسدون بها جوعهم، فربما كان هذا الحل عملياً أكثر، يقلل اعتماد سكان العاصمة على الخضروات والألبان واللحوم الضارة المقرفة. وكان من الممكن أن تكون خطوة أكل الورق المستورد بدلاً من خضروات القاهرة تجربة، إن نجحت واعتادها المواطن، يتم تعميمها، وفى هذه الحالة سيستريح المركزى من تقارير الموازنة أيضاً، لكى تكفى الأوراق كل سكان مصر (أعنى من لا يستوردون غذاءهم من مكسيم باريس) لأن كل أرض الدلتا والوادى صارت تحت مرمى الصرف الصحى، حيث لا توجد منطقة تستغنى عن رية أو ريتين من المصارف وقت شح المياه فى كل موسم. وهذه المشكلة كانت النتيجة الطبيعية للعب بالماء والتحضر الرث بتعبير الباحث شحاتة صيام. مغامرات زراعة الصحراء، وإهمال شبكات الرى فى الأرض القديمة وتقنين الكميات المطلقة من المياه فى ترعها كانت أساس اللجوء لماء المجارى، وفى الوقت نفسه تزايدت مياه المجارى بسبب تمدد مساحة العمران فى القرى المصرية وتغير عادات استهلاك المياه فى البيوت بدون استعداد، فتم تحميل الصرف الصحى على المصارف الزراعية التى كانت مخصصة لرشح أملاح التربة وتصريف الماء الزائد فى الأرض الزراعية، وهكذا تكفل تقنين مياه الرى مع التحضر العمرانى الرث بتوزيع الخراء بالعدل بين كل المزروعات. ولو بحث المركزى للمحاسبات أو أى مركزى آخر لاكتشف أن نقص المياه العذبة ظاهرة عامة فى كل ربوع الوادى والدلتا بشرقها وغربها، وأن هذا النقص تلبيه المصارف دائماً، فتلويث الزرع أرحم من قتله فى عرف المزارعين الذين يرونه روحاً ينبغى أن تعيش. وقد كتب الأستاذ الجليل رشدى سعيد محذراً من أمر اللعب بالماء، لكن من سمع للملط سيسمع لرشدى، ومن سمع لرشدى سعيد سيسمع منى، وقديماً قالوا: «العايط فى الفايت نقصان فى العقل» ثم إننى بلا عقل فعلاً، حيث آمر الآخرين بالبر وأنسى نفسى، وقد كان من الأفضل أن آكل هذه المساحة من الصفحة، بدلاً من أن أكتبها!