لا تكاد تصادف لحظة من التفاؤل العابر فى هذا البلد، حتى تُفاجأ بواقعة صادمة تكفى لتوزيع الإحباط بالتساوى على الناس! فالدكتور يسرى الجمل، وزير التربية والتعليم، كان قد قرر طبع كتب الوزارة خارج ما جرى عليه العرف، طوال السنوات الماضية، بما يسمح فى النهاية بتجديد مناهج الدراسة، ولو بنسبة ضئيلة.. وما كاد يعلن عن قراره، حتى وجد نفسه موضع هجوم متواصل لم يتوقف، إلى أن عاد الرجل صاغراً عن القرار، لتصبح الحصيلة بقاء التعليم كما هو، ويتبدد أى أمل فى مستقبل مختلف له عن هذا الواقع المتردى! وقد تبين أن الوزارة تدفع 750 مليون جنيه لطباعة الكتب فى كل عام، يذهب ثلثها إلى المطابع الأميرية، والثلث الثانى إلى مطابع القطاع الخاص، ثم الثالث إلى مطابع المؤسسات الصحفية القومية، خصوصاً الخاسرة منها التى إذا توقف عقد طباعة كتب وزارة التعليم عنها، أغلقت أبوابها فى الحال! وجد الوزير أنه فى مواجهة عاصفة تكاد تقتلعه من منصبه، ليس لأن الذين قادوا العاصفة كانوا، لا سمح الله، غير راضين عن مستوى التعليم، ولا لأنهم، لا قدر الله، كانوا غيورين، إلى هذا الحد، على تعليمنا، ولا لأنهم، والعياذ بالله، كانوا مشفقين على ما سوف يلقاه كل طالب حين يتخرج ولا يكون قد تلقى تعليماً حقيقياً، ولا.. ولا.. إلى آخر ما يمكن أن يخطر على بالك، فكل هذه النوايا الساذجة تجاه التعليم لم تكن حاضرة لديهم، وإنما كان المهم، ثم الأهم، أن يعود العقد «أبو 250 مليوناً» للمؤسسات الصحفية، وأن يبقى كما هو، وأن يتوب الوزير منذ هذه اللحظة عن التفكير فى أى شىء يمكن أن ينقل التعليم فى مدارسنا، ولو خطوة واحدة، إلى الأمام. كان هذا هو الواضح تماماً من خلال الهجوم القذائفى، وهو هجوم لم يجد إزاءه الوزير إلا أن يعود وإلا أن يتوب، وإلا أن يقول: حقى برقبتى! وأن يبقى التعليم كما تراه أنت، ويراه كل ذى عينين يمضى من منحدر إلى منحدر! بطبيعة الحال ليس لدى أحد مانع فى أن تدعم الحكومة صحافتها، كما تحب، وليس لدى أحد اعتراض على أن تمنح الدولة مؤسساتها الصحفية 500 مليون، وليس 250 مليوناً فقط، ولكن بشرط وحيد، هو ألا يكون هذا على حساب التعليم، ومن لحم الحى فيه! فجأة، اكتشف التعليم أن عليه أن يدعم هو مؤسسات أخرى فى الدولة، فى حين أن العكس على طول الخط هو المفترض، وفجأة اكتشف التعليم أنه بدلاً من أن يكون محل رحمة، فإن عليه أن يكون ضحية! وليذهب أبناء الثمانين مليوناً، الذين ينتظمون فى أى مدرسة، إلى قاع الجحيم. وهناك مثل شعبى يصور علاقة من نوع ما، بين «عيان» وبين «ميت»، ويصور بالضبط ما جرى.. ولكن الحياء وحده يمنعنى من ذكره.. وأظن أنه أيضاً سوف يمنعك!