يتقدم زعيم الحزب بخطواته الواثقة نحو غرفة الاجتماعات، متأبطاً عشرات الأوراق التى سيعرضها على رجال حزبه فى اجتماعهم الأسبوعى! يبادر الساعى بفتح الباب والانحناء لدى دخول الزعيم، ثم يغلقه من خلفه، مشيراً لزميله قبل أن يشرع فى الثرثرة: شششش! الاجتماع بدأ..! يتخذ الزعيم مكانه على رأس الطاولة، فيما يتحلق حولها نوابه ورفاق كفاحه من قيادات الحزب.. يفتح الجميع ملفاتهم المتخمة بالبرامج والخطط.. كل منهم يطمع فى التصويت لاقتراحه بشأن موضوع الاجتماع المصيرى: مستقبل البلاد وسبل الخروج من أزمتها! يستهل الزعيم كلمته الافتتاحية، بعبارة قاطعة: مستقبل البلاد على المحك، وعلينا أن... وفجأة، يرن جرس هاتفه المحمول.. يتلعثم، يلقى نظرة خاطفة على شاشته، ثم يلقى به إلى سكرتيره الشخصى الذى يجلس إلى جواره متظاهراً بعدم الاكتراث، ليستكمل من بعد ذلك الكلمة.. يتنحى السكرتير جانباً وهو يجيب على المتصل بصوت هامس: (...) أهلاً وسهلاً!! (...) لا، الزعيم مشغول الآن! (...) لا يمكن على الإطلاق، لديه اجتماع مهم! (...) أى تصريحات تلك؟ لم نسمع بها! (...) ابق معى على الخط، سأعرض عليه الأمر! من جديد، يضطر الزعيم للتوقف عن استعراض التحديات التى تواجه بلاده، إذ يهمس السكرتير فى أذنه: صحفى من محطة تليفزيونية يؤكد أن زعيم الحزب المنافس يدلى الآن على الهواء بتصريحات مضادة لحزبنا، يشكك بها فى ولائنا للشعب!! ينتفض الزعيم واقفاً، وينتزع الهاتف من السكرتير، ويصيح فيما يبتعد عن طاولة الاجتماعات العريضة: كيف يجترئ على حزبنا العتيق؟ كيف يجسر على انتهاك تاريخنا فى النضال؟ كيف يقدم على المس بوطنيتنا؟!.. كان المجتمعون قد توقفوا عن التقليب فى أوراقهم، ليتابعوا فى ترقب ثورة الزعيم.. يسود الصمت لحظة، والزعيم مازال متشبثاً بالهاتف، قبل أن يندفع مستفسراً من الصحفى بغضب: أنا وهو على الهواء الآن؟ وما أن يأتيه الرد فيما بدا للحاضرين بالإيجاب، حتى ينبرى مجدداً فى كيل الاتهامات لزعيم الحزب المنافس، والهجوم عليه، والنيل منه.. يستعرض الزعيم بفخر ماضى حزبه، والمعارك التى خاضها ضد الاستعمار، والانتفاضات الشعبية التى قادها وحقق بها الأمجاد... ثم يستنكر على الحزب المنافس كونه وليداً، تنقصه الحنكة السياسية، وتستقطب شعاراته الحماسية صغار السن فقط... يخرج الزعيم من الغرفة ليواصل اشتباكه مع منافسه الشاب عبر القناة الفضائية فى الردهة المهيبة، أمام عينى الساعى الحائرتين... أما السكرتير الذى تسمر فى مكانه منذ بدأت ثورة رئيسه فيتناول الريموت كنترول، ويضغط على الزر رقم واحد، وهو يصوبه باتجاه جهاز التليفزيون الضخم، لتظهر الشاشة وقد انشطرت لنصفين، على أحدهما صورة الزعيم بكوفيته التقليدية، وعلى الآخر صورة منافسه بلحيته الكثة.. وتمضى ساعة على الحديث الهاتفى المذاع، وقيادات الحزب لا يغادرون مقاعدهم كما لو كانوا فى دار لعرض الأفلام الإباحية.. فبعضهم يجفف عرقه، والآخر يبل ريقه برشفة ماء، وكلما ألقى المذيع بسؤال ماكر على الزعيم، يبالغ الجميع فى الإصغاء، ثم يهتفون ويصفقون بعد أن يدلى زعيمهم بالإجابة الشافية، وكأنه أحرز هدفاً فى مباراة... ينتهى البرنامج، ويشكر المذيع ضيفيه اللذيْن كثيراً ما يلتقيان على وسائل الإعلام، لكنهما لم يجتمعا فى غرفة واحدة منذ سنوات.. يردد المذيع شعار القناة الشهير بسعادة، ثم يختم البرنامج، تاركاً جمهوره فى غرفة الاجتماعات مستغرقاً فى تجهيز عبارات المديح التى سيستقبل بها زعيمه.. تمضى دقائق، نصف ساعة، ساعة.. ولا يعود الزعيم إلى الاجتماع الخطير.. ومازال معاونوه مرابطين حول الطاولة، يمتنعون حتى عن تبادل الرأى فى المقابلة أو جدول أعمال الاجتماع انتظاراً لعودة الزعيم.. لكن الزعيم لا يعود... يخرج السكرتير باحثاً عن رئيسه، يصادف الساعى، يسأله: أين الزعيم؟ يرفع الساعى حاجبيه، ويخفض جفنيه، ويقول: ماعرفش! لقد ظل يصيح فى الهاتف وهو يسير على غير هدى، حتى خرج من مبنى الحزب..!! يسارع السكرتير بالاتصال بالزعيم، متحدثاً إليه بنبرة خافتة كعادته.. وبعد لحظات ينهى المكالمة، ويعود أدراجه إلى غرفة الاجتماعات.. يفتح الباب على مصراعيه، ويهتف فى المجتمعين: لقد ألغى الاجتماع... يقفز الرجال من مقاعدهم، ويسألونه بصوت واحد: لماذا؟ فيجيب، مجاهداً ابتسامة: الزعيم نسى نفسه! وظل يسير وهو يتحدث للقناة التليفزيونية، حتى وصل إلى منزله!! يتطوع أحدهم بسؤاله: وماذا عن مستقبل البلاد؟ فيرد السكرتير بهدوء: سنناقشه الأسبوع المقبل، أو الذى يليه... أما الساعى فينظر إلى زميله ملياً... لكنهما لا يجرآن على التعليق! [email protected]