(1) من العبارات الراسية فى عقلى، ومحفورة فى وجدانى تلك التى ذكرها الدكتور جلال أمين فى كتابه «شخصيات لها تاريخ» وتقول: «تحتاج النظم الشمولية فى الترويج لقراراتها إلى خدمات عدد من المثقفين، يجملون هذه القرارات فى أعين الناس مهما كانت درجة قبحها، أو على الأقل يحدثون درجة من الجلبة والضوضاء والتهليل لهذه القرارات يستقر معها فى أذهان الناس أنها تتمتع برضا الجميع.. لكن هؤلاء المثقفين أو المصفقين أشكال وأنواع، وهم متفاوتو القدرات والكفاءات تفاوتا عظيما، ولكل منهم دوره وجمهوره، الذى يعتبر المثقف موكولا به، ومسؤولا عنه» ثم يشير إلى واحد من هؤلاء ويقول: «كان رجلا ذكيا وجريئا، ولكنه للأسف استخدم ذكاءه وجرأته، فى مواقف كثيرة من مواقفه، بما يتعارض مع مصلحة أمته، ونحن لذلك نطلب له من الله المغفرة، ولكن لا يجوز أن نطالب الناس، أو نطالب أنفسنا بالنسيان». (2) هناك دراسة بديعة لجوليان بندا عنوانها «خيانة المثقفين» شن فيها هجوما لاذعا على المثقف الذى يتخلى عن رسالته، ويفرط فى مبادئه، ورأى فى ثناياها أن المثقف الحقيقى هو الذى ينحاز دوما إلى المعايير الخالدة للحق والعدل، ويكون دوما صادقا مع نفسه، مدفوعا بفعل المشاعر الفياضة، والمبادئ السامية إلى فضح الفساد، والدفاع عن الضعفاء، وتحدى السلطة الغاشمة. (3) أتوقف مليا أمام قصيدة رائعة لكنها مؤلمة للشاعر الكبير حسن توفيق عنوانها «المناضلون» يقول فيها: «فى غرفة أنيقة/ مبنية جدرانها من النفاق والدجل/ وبابها منفتح لمن يرى الحقيقة/ لكنه يدوسها ويرتمى بلا خجل/ على المقاعد المريحة/ ممددا ساقيه حين يبدأ الكلام/ مدخنا سيجارة تلهمه الرؤى الفصيحة/ تلهمه الختام .... يا ضيعة الحقيقة/ طائفة من اللصوص والمهرجين/ تحترف الحديث عن قضايا الكادحين/ فى غرفة أنيقة». (4) هناك قصة قصيرة ليوسف إدريس عنوانها «الرجل والنملة» يحكى فيها كيف كان ضباط السجون يعذبون المثقفين المعتقلين معنويا، عبر مطالبة كل منهم بأن يحضر نملة «أنثى» ثم يخلع ملابسه تماما ويضاجعها. ويؤكد بعض النقاد والشهاد أن «القصة حقيقية»، لكن مطابقة الواقع على الخيال جعلت البعض يقول بعد مرور كل هذه السنين، إن من السجناء من رفض، ومنهم من فعل وتخلص من هذه العقدة، لكن بعضهم، وهم قلة والحمد لله، لا تزال هذه الواقعة المهينة المشينة تسكن خلاياهم، وتأكل أنفسهم وأرواحهم. وجاء ذكر هذه القصة ذات يوم على مقهى بوسط القاهرة، فقال شاعر معروف، وهو يقهقه: أما أحدهم، ثم ذكر اسمه، فإن النملة تمردت عليه، وثأرت لشرفها، لتذله بطريقة أخرى، فأفلتت من يده، ودخلت أنفه، وظلت تزحف حتى وصلت إلى رأسه، وراحت تنهش مع الأيام فى مخه حتى أكلت الفص المسؤول عن الأخلاق، وبعده الفص المسؤول عن التفكير، ثم التهمت الذاكرة، وهكذا حتى أصبحت رأس صاحبنا فارغة تصفر فيها الريح، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه، ويقف الآن عاريا يهذى بألفاظ نابية. (5) سأل الفنان توسكانينى تلميذه ذات يوم: ما رأيك فىّ؟ فابتسم وقال: أما بالنسبة لتوسكانينى الفنان، ثم خلع قبعته وانحنى له تعظيما. وأما بالنسبة لتوسكانينى الإنسان، ثم خلع حذاءه وانهال على رأسه ضربا. (6) قال الحمار لصاحبه: انزل سأركب، فأنا جاهل بسيط وأنت جاهل مركب. فأما الجاهل البسيط، فهو الجاهل الذى يعرف أنه جاهل. وأما الجاهل المركب، فهو الجاهل الذى لا يعرف أنه جاهل. وقد جاء فى الأثر أن من تعلم علما ولم يعمل به فهو أجهل الناس. (7) قدُم فخر الدين الرازى، وهو متكلم وفيلسوف ومفسر للقرآن، إلى مرو فى خراسان ذات يوم، وكان له من الهيبة والعلم وعظم الذكر ما لا يجعل أحدا يراجعه فى كلامه، ولا يتنفس بين يديه. وكان عنده ذات مرة شاب صغير هو إسماعيل بن الحسين العلوى، فطلب منه الرازى أن يصنف له كتابا فى أنساب بنى طالب ليحفظه، فحقق له ما أراد، بعد تردد وخوف، فلما ناوله الكتاب نزل الرازى من مقعده وجلس على حصير، وطلب من تلميذه أن يجلس مكانه، فأبى، لكنه نهره بشدة وزعق عليه، وقال له: اجلس حيث أقول لك. فلم يتمالك إلا أن جلس حيث أمره. ثم أخذ يقرأ فى كتاب تلميذه، ويستفهم منه عما استغلق عليه، إلى أن أنهاه قراءة، فلما فرغ منه قال: اجلس الآن حيث شئت، فهذا علم أنت أستاذى فيه، وأنا أستفيد منك، وأتتلمذ على يديك، وليس من الأدب إلا أن يجلس التلميذ بين يدى الأستاذ.