كانت ليلة سوداء يوم ما شفت الفيلم ده.. يوم الأحد الماضى فى «البيت بيتك».. فيلم تحقيقى عن «أبناء الخوف» وهى أدق تسمية لمن نطلق عليهم أطفال الشوارع، وصانع هذا الفيلم هو «محمود التميمى» وهو شخص نكدى، مزاجه ينكد على المصريين المبسوطين المنشرحين اللى زينا ويعكر مزاجهم ويصيبهم بالكوابيس ويفكرهم بهذه الوجوه التى نراها من خلف زجاج العربات فى الطرق والإشارات يحاولون بيع المناديل أو مسح الزجاج ونحن ننهرهم ونسبهم ثم نسير مبتعدين ونحن نمصمص الشفاه امتعاضًا ثم نعود للحديث الذى توقف أو نسمع الكاسيت، خاصة لو كان على إذاعة الأغانى المبهجة.. لا علاقة لنا بهم أكثر من علاقة زائرى حديقة الحيوان بالحيوانات حبيسة الأقفاص، هؤلاء الذين فى رأى الكثيرين ينشدون الحرية فى الشوارع هم فى الواقع سجناء الخرابات والأرصفة والمرسى وموقع على شاطئ النيل.. لا يتاح لهم أكثر من صفائح القمامة يبحثون فيها عن الفتات وبعض النقود يشترون بها «الكلة» أرخص مخدر متاح.. ونحن نتناسى ونتجاهل ولا نقترب إلى أن اقتربت الكاميرا واقتربنا معها مجبورين.. رأينا غرباء يعيشون بيننا.. وجوهًا تبدو وكأنها لا تبالى ولكنها تنطق بالمرارة والألم.. سنوات أعمارهم القليلة رسمت علامات غائرة على الوجوه وكأنها دهور من المعاناة والشرود.. يتحدث ذو الخامسة عشرة وكأنه كهل عن زميل لهم مات من كثرة «شد الكلة».. وذو العاشرة يرتجف من البرد تحت بطانية بالية وبيده السيجارة ويقول إنه يدخن منذ ثلاث سنوات بينما ملامح وجهه تشير إلى أضعاف هذا العمر القليل.. يتمنى أحدهم أن يرى أمه وآخر يقول إن أبويه لا يريدانه ولكن عمه يريده ولا يملك مكانًا له.. آخر يدعو على أمه وغيره لا يطمح سوى فى أن ينام.. ملاذهم وخلاصهم فى أوقات شد الكلة حيث يتحول الواقع اللامعقول إلى ضباب غير واضح تتبلد فيه المشاعر لأخذ قسط من الراحة المؤقتة، «بلية» ذو الخامسة والعشرين يبدو فى الأربعين، الوجه يحمل آثار عنف متراكم والنفس لا تطمح فى أكثر من شهادة ميلاد وبطاقة وعمل.. أى عمل، لا يعرف له أهلاً، ولد فى الشارع وشب وعاش فى الشارع ومات غريقًا بلا هوية.. القانون لا يطلب تحقيقًا فى وفاة مجهول والنيابة لا تطلب رأى الطب الشرعى أو الصفة التشريحية لمعرفة سبب الوفاة لأنه لا يحمل أوراقًا وغير مقيد على ذمة الشعب المصرى إذن هو غير موجود أساسًا.. لذلك كان رأى الدولة متمثلاً فى كلام الوزيرة مشيرة خطاب أن سبب المشكلة هو هذه العائلات قليلة الأدب التى تلقى بأبنائها فى الشوارع وأن الحل فى 16000 رقم التبليغ عمن هم دون الثامنة عشرة ومن هم فوق هذا العمر ليسوا من مسؤوليتنا.. ورئيسة المؤسسة الشهيرة التى تفرخ أولاد الشوارع بأبوقتاتة- والعياذ بالله- تلوم الأطفال لأنهم دائمو الهروب، والحقيقة بعد مشاهدة الفيلم أصابنى الغضب والألم والفزع ثم نزل علينا كلام السيدة مشيرة كالدش البارد.. وأخذت أفكر فى مفهوم الدولة فى مصر المحروسة فلم أستطع فهمه.. ما هى الدولة ومن هم رعاياها؟ ولماذا تركت هؤلاء الأطفال منذ ثلاثين عامًا حتى تضخمت المشكلة وبلغت هذا الحد؟ ولماذا عندما يتم استغلالهم فى تجارة بشرية قذرة وتقديمهم لراغبى المتعة من الشواذ مثلما حدث فى الإسكندرية تحكم المحكمة على «الزنجيرى» بالمؤبد؟ لماذا يدان وهو يتاجر ببشر لا تعترف بهم الدولة.. ولا حق لهم لديها ولا أوراق ولا هوية ولا اهتمام ولا تشريح عقب الوفاة ولا تحقيق فى قتلهم؟ لكن علاقتهم الأكيدة بالدولة هى فى سحبهم كل حين إلى الأقسام «لشيل» بعض القضايا والذهاب إلى السجن أو الخروج بعد كام علقة ساخنة إلى العراء مرة أخرى. أنا أحسد المسؤولين فى هذه الدولة على أعصابهم الفولاذية ونظرتهم المستقبلية الوردية المتفائلة.. وأهنئ البيت بيتك على انتزاع قدر من الحرية والجرأة التى تخنقها السياسة الإعلامية وأفخر بالشاب المهموم بالوطن المدعو محمود التميمى وبادعى له.. منك لله يا تميمى.