لما كان عدم الفهم لمبادئ التحكيم وشروط فض المنازعات التى يتعين تضمينها فى العقود الدولية - وهى كثيرة - وما يطرأ عليها من وقت لآخر من تعديلات جوهرية تستلزم المتابعة الدائمة.. هى أحد الأسباب الرئيسية فى خسارة مصر للعديد من قضايا التحكيم الدولية وما يستتبع ذلك من أعباء مالية على كاهل الميزانية العامة. وانطلاقا من خبرتى كمحكم ممارس ومدرب للمحكمين الدوليين بدءا بالمؤتمر الدولى الذى انعقد فى مدينة لوس أنجلوس فى يومى 5 - 6 من نوفمبر سنة 1992، والذى حضره أساطين القانونيين من معظم دول العالم.. فقد تطلعت إلى إنشاء مركز أهلى لفض المنازعات فى مصر.. لتواكب مصر ما طرأ من تطور على هذا العلم لتخفيف العبء عن المحاكم وسرعة الفصل فى المنازعات.. على أن يكون هذا المركز منارة لتدريب المحامين والمتخصصين وخلق كوادر تتولى الحكم بين المتنازعين. فجئت إلى مصر فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى.. والتقيت بأساتذة جامعة أجلاء رحبوا ترحيبا كاملا بالفكرة.. وتباحثنا وتناقشنا لعدة شهور.. ولما لم يكن رد الفعل بحجم أهمية الموضوع عند المسؤولين.. فقد أحسست كمن «يؤذن فى مالطة» وآليت على نفسى أن أتجنب طرح هذا المشروع تماما.. وحزمت حقائبى وسافرت. وبتاريخ 19 يونيو سنة 2001 كتبت مقالا فى الأهرام بعنوان «لجان التوفيق والدور الغائب للمحامين».. وقد تفضل الأهرام بنشره تحت عنوان «قضية الساعة» بعد أن استشعر أهميته القصوى... شرحت فيه أسباب القصور الشديد وعدم دراية المشرع الذى وضع القانون رقم 7 لسنة 2000، بشأن لجان التوفيق لفض المنازعات المطبقة فى دول العالم.. كما طالبت أن يكون لنقابة المحامين دور رائد فى فض المنازعات، طبقا للقانون رقم 27 لسنة 1994، الخاص بالتحكيم. وقد دفعنى رد الفعل الجيد الذى شرفت به إلى إعادة محاولة طرح المشروع.. لكن سرعان ما باءت المحاولة بالفشل للمرة الثانية. حتى كان مقال عضو مجلس الصحافة الأعلى.. فى الأهرام منذ عدة شهور.. الذى جاء به أن التحكيم هو آفة الآفات وأن القضاء المصرى يجب أن يكون صاحب الاختصاص الأوحد.. وهاج وماج ووعد وتوعد.. ويبدو أن من حوله قد لفتوا نظره إلى أن التحكيم الدولى تحكمه معاهدات واتفاقيات دولية لا يمكن التنصل منها.. فسكت ولم يعاود الكرة. كيف يتحقق لمصر كسب القضايا المرفوعة عليها مع انعدام الثقافة عن مبادئ فض المنازعات؟! ويحضرنى تساؤل آخر يتعلق بقضية «سياج».. إن قواعد فض المنازعات لمراكز التحكيم المختلفة ومن بينها «المركز الدولى لفض منازعات الاستثمار» أى الأكسيد الذى حكم فى قضة «سياج».. كلها تشترط الوساطة والتوفيق قبل اللجوء للتحكيم.. وهو نص ملزم لا يمكن تجاهله حين يقع النزاع.. كما لا يمكن تجاهله حين تحرير العقد بين الأطراف. كما أن «المعاهدة الثنائية فى شأن الاستثمار بين مصر وإيطاليا» والتى استندت اليها المحكمة فى قضية «سياج» جاء بمادتها التاسعة أن المنازعات والخلافات بين الأطراف يتم حسمها وديا إن أمكن ذلك. قبل اللجوء للتحكيم. فلماذا لم تلجأ مصر- جديا - إلى استعمال هذا النص قبل الدخول فى «معمعة» النفقات الباهظة!؟ وبالإضافة إلى ماسبق ذكره لتلافى أسباب الخسارة المتكررة لقضايا التحكيم التى ترفع على مصر.. أرى الآتى: 1. أن تضم هيئة الدفاع أمام محكمة التحكيم محكما محترفا.. وإلا بدا على الهيئة – مهما كانت قدرات أعضائها القانونية – قصورا فى التفريق بين التقاضى والتحكيم.. لأن معالجة دعاوى التحكيم تستلزم مهارات خاصة. 2. أن يراعى فى اختيار المحكم الذى يمثل مصر فى محكمة التحكيم أن يكون قوى الحجة واضح القدرة على التأثير فى رئيس الهيئة ومحاولة التأثير فى المحكم المنتخب من الخصم. أما قضية «وجيه إيلى جورج سياج ووالدته كلورينا فيشى ضد الحكومة المصرية» والتى تم الحكم فيها فى يونيو 2009 بمبلغ 74 مليون دولار أمريكى بالإضافة للفوائد بعد أن ثبت للهيئة مخالفة مصر لعدة شروط من المعاهدة الثنائية بين مصر وإيطاليا فى شأن الاستثمار.. والتى طالبنى الكثيرون بالتعرض لتفاصيلها.. ورغم أن ما فى حوزتى من معلومات – محدودة - تكفينى للتعليق والنقد.. فإننى ولأسباب شديدة الخصوصية أكتفى بالآتى: صديقى وأستاذى الدكتور كمال أبوالمجد.. مع حبى وتقديرى.. لا أشك فى علمك بأن قضايا التحكيم تصدر نهائية.. لقد انتهت قضية «سياج».. وكل خطوة جديدة تخطوها هيئة الدفاع تكلف مصر - يوميا - عشرات الآلاف من الدولارات.. بالإضافة إلى مصاريف الطرف الآخر والتى يجب أن يتحملها خاسر الدعوى أى «الحكومة المصرية». وكان الله يحب المحسنين. [email protected]