هناك القليل جداً الذى يجمع المواطن بحكومته، من هذا القليل أننا (شعباً وحكومة) رقيقو الإحساس ومهذبون، الأعمى نسميه بصيراً، والعيان نقول إنه «بعافية»، وصاحب غرزة على الطريق الصحراوى يخدم سائقى وتباعى النقل، ويرفع لافتة «كافى شوب الملوك»، ونظامنا العشوائى مولع بالمناظيم التى تتقافز مثل قراميط السمك على ألسنة الوزراء والمسؤولين (من الذى يسألهم؟!). تسمع عن منظومة الإعلام، منظومة المجارى، ومنظومة العيش الحاف التى حازت شهرة واسعة فى المجاعة السابقة منذ عام واحد، عندما تفتق ذهن النظام عن فصل منظومة الإنتاج عن منظومة التوزيع. كانت المشكلة فى نقص الخبز فتم بناء عدد ضخم من الأكشاك لتوزيع الخبز غير الموجود، أو بالأحرى الخبز الذى نخبزه للطير والحيوان وليس للإنسان. ونحن نخبز للحيوان ليس بسبب رداءة الرغيف، وهى مؤكدة، لكن لسبب تافه وهو أن منظومة الأعلاف منفصلة عن منظومة الخبز، وببساطة شديدة كان من الممكن صون الرغيف للبنى آدميين إذا كان هناك مخ ومنظومة واحدة تحكم مجلس الوزراء، وقررت أن تجعل ثمن كيلو العلف أقل من ثمن كيلو العيش المخبوز! هل يحتاج فهم هذه المعادلة إلى عبقرية غير متوفرة فى طاقم الحكم، أم أن هناك تعمداً لإفقار مصر فى الإنتاج الحيوانى بوضع أسعار مجنونة للأعلاف؟ أولاد الحلال تركوا هذا الحل البسيط، وهو حل لمشكلة الرغيف واللحم أيضاً، لأن سعر اللحم فى مصر مقارنة بالدخل هو خمسة أمثال الأسعار العالمية. تركونا نشتهى اللحم والرغيف الحاف، واشتغلوا على منظومة التوزيع المنفصلة من خلال بناء عدد ضخم من أكشاك التوزيع، ومن خلال توظيف عمال توصيل الطلبات إلى المنازل، وهو عمل طفيلى آخر يضاف إلى قائمة طويلة من الوظائف التى لا ضرورة لها. وأصبحت منظومة التوزيع ملزمة بمطاردة منظومة الإنتاج لتسلم الكمية التى كان المنتجون الشياطين يبددونها أو يبيعونها دقيقاً فى الأسواق. وفات عباقرة الحكومة أن المنظومة الجديدة سيتولاها مصريون أيضاً، على ذات الدرجة من استقامة الضمير أو اعوجاجه، مثلهم مثل المنتجين، وأن الربط بين المنظومتين سيتم عبر موظفين أفقر من الطرفين؛ أى أنهم ليسوا ملائكة ولا حكاماً أجانب! القاعدة الثانية البسيطة التى لا يفهمها العباقرة، هى أن الموظف إن لم يتقاض ما يكفيه فلن يكون أمامه إلا أن يفسد، وأن صاحب العمل الحر (صاحب المخبز فى حالتنا) إن لم يتلق العائد المجزى من كد يومه فسيضطر للبحث عن وسيلة بصرف النظر عن شرعيتها أو أخلاقيتها. وعباقرة الحكومة يعرفون أن خبز العيش يوقع الخسائر بصاحب الفرن، وكلما خبز أكثر خسر أكثر، ويعرفون أن مفتش التموين وموظف التوزيع أفقر من أن يرحموا المحتاج أو يخافوا دعوة المظلوم، والنتيجة المحتمة لمنظومة الضيق هذه هى أن يتفق جميع الأطراف على تقسيم اللقمة بينهم. فى المنظومة المتخلفة السابقة كانت اللقمة تنقسم على اثنين: صاحب الفرن ومفتش التموين، الآن فى المنظومة الأكثر تخلفاً زاد التكالب على رغيف اليتيم بدخول الموزع فى الكشك، وموصل الخبز إلى المنازل كطرفين جديدين للتلاعب! وقد عادت فتنة الرغيف تطل برأسها، وبدأ صبر أصحاب المخابز ينفد، وهم على حق، كما أن الحكومة على حق، والطرفان من خلال الشد والجذب والاتفاق القديم والاتفاق الجديد يقولان للمستهلك بالسم الهارى، حيث يبدو عالة على الطرفين، وهو الوحيد على خطأ، لأنه يريد أن يأكل! حصيلة العام توزيعياً لم تحقق شيئاً، كما توقعنا على هذه الصفحة، وكل ما كسبناه هو منظومة «الكبانيهات» التى تحولت إليها الأكشاك المهجورة، كما توقعنا أيضاً، لكنهم لا يريدوننا أن نتوقع ولا يسمعون للتحذير. وهنا يجدر بنا أن نتحدث عن القسمة والنصيب فى مسألة المنظومات، فقد كلّت ألسنتنا من المطالبة بمنظومة دورات مياه عمومية تنقذ الملهوف، ولا من مجيب للدعاء، حتى تحولت الزوايا المظلمة من شوارعنا إلى مراحيض عمومية عشوائية، شنيعة الرائحة وخطرة على صحتنا، ودعك من تفاهة المنظر الحضارى، صحتنا أهم! أخيراً فُرجت، وكنا نظنها لا تفرج، وها هى دورات المياه التى تمنيناها وتقاعست المحافظة عن بنائها قد أقيمت على أحسن ما يكون، بمبادرة كريمة من وزير التضامن، ليس فى القاهرة وحدها وإنما فى جميع المحافظات، صحيح أنها بنيت لغرض آخر، لكن لا بأس فالحكومة واحدة، ولا فرق بين التضامن والصحة والسكان أو التعمير والمحافظة، المنظومة الحكومية واحدة. ومنظومة الطعام ليست بعيدة عن منظومة إخراج الطعام! وهذا يجعلنا لا نبكى على الدقيق المسكوب أو على الأكشاك المهجورة، لكننا نأمل فى منظومة إضافية، يتطوع بها القطاع الخاص أو زير الإسكان أو الأحياء، أو يكمل وزير التضامن جميله وينشئ منظومة جديدة للمجارى فى «الكبانيهات» الجديدة (أكشاك الخبز سابقاً) لأن الأكشاك بدون مجارى رائحتها لا تطاق، خصوصاً فى الصيف، أما منظومة العيش فسوف يأتى يوم تجود فيه مصر الولادة بنظام حقيقى، يفهم معنى المنظومة، ويغلق الباب الخلفى لتسرب العيش، والذين سبقونا قالوا: محدش بيبات جعان!