عندما تغيب المعلومات عن الكاتب ، فإن ما يكتب ليس إلا «زبدا يذهب جفاء»، فلا يسمن أو يغنى من الجوع والعطش للمعرفة، هذه الخاطرة سيطرت علىّ لدى الكتابة عن موضوع أزمة حوض النيل، بعد قراءتى لمقال رئيس تحرير إحدى الصحف اليومية الزاعقة الذى أخطأ فى أرقام تتعلق بقضية أمننا المائى، فأصبح مثل الفيلسوف الذى يسير فى طريق محلقا بعينيه فى السماء، فيسقط فى أول حفرة تصادفه على الأرض. وابتداء القضية ليست تناولا من برج عاجى ولكنها إطلالة على مسألة لا فارق فيها بين معارض أو مؤيد، فالمصلحة العامة هى المحرك والدافع، فماء النيل هو حياتى وحياتك، ومن ثم فدعنا نتفق أولا على أن هناك معطيات ودلائل تدفع بنا إلى حقيقة واحدة وهى أن النيل «هييجى هييجى» بعيدا عن دعاوى الابتزاز وتخرصات السياسيين، فبالتاريخ والجغرافيا، النهر نهرنا وليس نهرهم كما وصف الرومان المتوسط ب«بحرهم»، فمن كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا، فهو من صلب الطبيعة وصناعتها، وكما قال الراحل العظيم جمال حمدان قبل عقود : «الطبيعة صنعت وشكلت ورتبت كل ما فى حوض النيل، ليستقطب قمة وحيدة هى مصر، كل ما فيه موظف لخدمتها وتعظيمها، وفى الوقت نفسه يعمل على حمايتها وتأمينها من سلبياته وأخطاره هو ذاته، وبينما كان ساكنو دول المنابع يعيشون تحت نير التخلف كانت هناك حضارة مزدهرة للمصريين تلاقى فيها بحر التاريخ (المتوسط) بنهر النيل». وفى موسوعته «شخصية مصر» يذكر حمدان فى حديثه عن النيل فضل مصر على الحوض بقوله «فى كل الأحوال فإن النيل سواء بصورته البدائية الأولية أو فى صورته الحالية لا يدين بوجوده وأصله للحبشة أو غير الحبشة فى المنابع بقدر ما يدين لجيولوجية مصر المحلية، فلولاها لكان النيل تأرجح أو تسكع يمينا أو يسارا، أو انتهى داخليا أو خارجيا إلى البحر الأحمر أو أعماق الصحراء الكبرى. جغرافية حوض النيل رتبت بحيث تكون قمة الحياة فيه فى مصر، فكما تتركز كل قوة مصر فى وادى النيل، تتركز قوة حوض النيل فى مصر، وحوض النيل بغير مصر يبدو ك «هاملت بغير الأمير». وحاول المستعمر دائما أن يلعب على وتر مياه النيل وتهديد مصر بمثل هذه الدعاوى التى ترددت مؤخرا عن حصة مصر، انتهت جميعا إلى مزبلة التاريخ لأن الطبيعة منحتنا قوتها بصناعة ربانية لا تتكرر فى بقعة أخرى على وجه الأرض، حتى إن «نيلنا» بعكس كل أنهار القارة يسير من الجنوب إلى الشمال، أو كما لقبه جمال حمدان بالعاصى الأعظم إذا كان هناك عاصٍ أصغر فى آسيا. ويذكر حمدان بيقين المصرى أن كثيرا من السياسات الاستعمارية والتهديدات الصبيانية إنما ينبع من جهل تام بحقائق الجغرافيا ولا يغذيه سوى سوء النية، أما الباقى فينقصه حسن الفهم والبصيرة، ويتحدد الرد على ذلك فى أربع نقاط جوهرية تشكل معا منطق الطبيعة الحاكم ومبادئ الشريعة الجغرافية الحاسمة. ولهذه النقاط الأربع تفاصيل نذكرها فى مقال لاحق لنضع نقاطا فوق الحروف فى قضية مهمة لا ينبغى لنا أن نغفلها ونحن ندخل حزام الفقر المائى، ونهاية أرجو أن أكون مثل «كانت» عندما قال «إننى لا أخشى أن أُفند بقدر ما أخشى أن يُساء فهمى». [email protected]