سارت جميع العبادات فى ديانات بلاد العرب القديمة فى طريق واحد. وكانت نقطة الانطلاق هى: عبادة إيزيس وأوزوريس فى مصر الفرعونية، هذا هو التفسير الذى يقدمه الشاعر الفلسطينى زكريا محمد فى كتابه «عبادة إيزيس وأوزوريس فى مكة الجاهلية». تتناول الدراسة - التى تقع فى 600 صفحة - امتداد تأثير العبادة الفرعونية فى بابل، مروراً بسوريا (الدولة الفينيقية) وبلاد فارس، وبلاد الحجاز كذلك.. قد يبدو الموضوع شائكاً، وقد يراه البعض غير منطقى، لكن المؤلف يأخذنا فى رحلة بحثية متميزة يفسر بها آيات القرآن وأسفار العهد القديم كذلك، ويتنقل بين هذه الآيات ولسان العرب، وتاريخ القيروانى، وأعمال الجاحظ، وأبيات الشعر القديم، وسيرة ابن هشام، والحكايات الأسطورية من سوريا والعراق. يقدم الكتاب - الصادر عن دار «آفاق» مؤخراً- نتائج مُربكة ومثيرة للجدل، منها أنه يفسر آيات سورة الكهف باعتبار أن أهل الكهف هم الفراعنة، ويدلل على ذلك بكشف أثرى لكهف أسفل أحد الممرات الهابطة فى الهرم الأكبر! رغم ذلك فإن الرحلة البحثية التى يقدمها الكتاب ستجعلنا نتأمل التراث الإنسانى بشكل أوسع، باعتبار أن كل الديانات والحضارات استندت على مرجعيات واحدة، ومنبع واحد هو مصر الفرعونية. «الفراعنة اخترعوا أو مهدوا لفكرة الدين فى العالم».. عبارة يمكننا تفهمها بشكل عملى عند قراءة الكتاب، لأن كل الأديان الوضعية جاءت من منبع واحد، حسب «دراسة زكريا»، بل إن القرآن يؤكد ذلك، يقول المؤلف، كأنه يتوقع استهجان البعض لما جاء فى كتابه: «لا داعى للاستغراب، فهناك مناطق لاتزال غامضة وغير مفهومة فى القرآن، وإلى منطقة من هذه المناطق سنذهب».. هكذا يشحذ المؤلف آيات القرآن ليعد لبحثه الموسع. وردت فى القرآن جملة أهملها الكثير من الباحثين. كانت الجملة وصفاً مركزياً شاملاً لعبادات ما قبل الإسلام فى الحجاز: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» (سورة الأنفال).. وقد ارتبط الإله -أيضاً- بطائر. يرى زكريا أن صلاة ما قبل الإسلام كانت تقوم على تقليد صوت طائر «المكاء»، الذى عرف بإطلاقه صوتاً يشبه الصفير، أثناء السعى بالصفا، أمام صنم «مجوز الريح» ساقى الحجيج بالماء والنبيذ وهو الطقس الذى كان يحدث فى مكة قبل الإسلام.. وهذا ما عرف بالمكاء! إذن ما المقصود بالتصدية؟ هل يقصد بها التصفيق، بمعنى أن التصفيق تصدية كف لكف وإصدار صوت من خلال لقاء الكف بالآخر؟! يستبعد زكريا احتمال التصفيق بافتراض أن التصدية إصدار صوت يكون رجع صدى لصوت ما، وهكذا كانت التصدية ترديدا لصوت الحية «شعيرة (الجاهليين) قائمة على تقليد صوت المكاء، ذى النغمة العالية، نغمة القمة، وصوت الحية، ذى النغمة الواطئة، نغمة قرار. أى إن صلاتهم كانت تقليداً لنغمتى الكون: القمة والقرار». هكذا يمثل صنم «مجوز الريح» الذى كان على جبل المروة نغمة العالم الصيفية العالية، وصنم آخر هو «مطعم الطير» الذى كان على جبل الصفى يمثل النغمة الشتوية الواطئة، وهذا التقسيم للآلهة، ما بين موسمين شتوى وصيفى هو تقسيم فرعونى، بل ويرجع إلى صورتى أوزوريس الصيفية والشتوية، وهذا يظهر من صولجان الإله المصرى القديم، الذى يمزج بين الحية والطائر! إذن ما حكاية الحية بالتحديد؟ يرجع الكتاب «حكاية الحية» إلى بئر كانت تقع أسفل الكعبة، فقد روى فى الجاهلية حكاية أن أهل قريش أرادوا ترميم البيت الحرام، فهاجمتهم حية خرجت من أسفل الكعبة، ولما لم يستطيعوا الترميم بعث الله لهم بطائر ضخم، «فى قوة نسر»، اختطف الحية وألقى بها فى مقبرة!.. هكذا تكون الحية رمزاً ل«مطعم الطير»، فالطائر يأكلها، وإن كان يفعل ذلك بشكل مجازى، وكذلك يتشابه هذا الوصف مع أسطورة «أوزوريس»، الذى كانت مدينته - «أبيدوس» - تحتوى على شق تغيب فيه الشمس، وينتقل عبره الموتى إلى العالم الآخر.. كما أن الميثولوجيا الفرعونية تجسد صورة أوزوريس الصيفية بطائر يقتنص الحية، رمز الصورة الشتوية للإله الفرعونى، ليحل الصيف على البلاد! كل التفاصيل إذن تبرز التشابه الواقع ما بين عبادة مكة الجاهلية وعبادة أوزوريس. من ناحية أخرى كانت «اللات»، «مناة» ، و«العُزى» تمثل ثالوث العبادة فى مكة الجاهلية. اللات إله مذكر، بينما العزى أنثى من طراز إيزيس، فرمزها - «العُزى» - شجرة «السمر»، التى تفرز صمغاً أحمر يسمى «حيض السمر»، أى إنها تحيض مثل المرأة، واللون الأحمر مرتبط بإيزيس. كما كانت «العُزى» توصف بين العرب ب«السعيدة»، وذلك لارتباطها بالقطب الجنوبى، وهو أمر آخر مرتبط بإيزيس.. تتجسد العزى على هيئة شجرة «السمر»، التى تنتهى إلى ثلاثة أفرع، تعبر عن ثالوث الجاهلية الأبرز، وترتبط الأفرع الثلاثة بالنجوم، وبالتحديد بنجوم حزام الجوزاء، المرتبطة هى الأخرى بعبادة الإلهين المصريين (يتردد أن حورس الابن كان يطوق وسطه بحزام مكون من نجوم حزام الجوزاء، وهو يصارع رمز الشر، «سيث» أو «ست»). ولكى يؤكد الكتاب ارتباط عبادات ما قبل الإسلام بأوزوريس وإيزيس ينتقل إلى أسطورة جلجامش، التى تتنمى إلى الحضارة السومارية. فى الأسطورة كانت هناك شجرة، أسفلها حية، وأعلاها طائر، ووسطها يمثل صورة الإله الأنثى، ولكنها كانت تمثل صورة الشر، هناك تشابه بين تقسيم الشجرة وحكايتى طائر المكاء وحية الكعبة. لماذا أشار المؤلف إلى أسطورة جلجامش؟ السر فى هذا يكمن أن شجرة الأسطورة، ستفسر قصة بناء الأهرام، التى لم تكن- حسب زكريا- إلا تجسيداً معمارياً لهذه الشجرة. الهرم الأكبر يجسد الطائر.. أى النغمة العالية للكون، والأصغر يساوى الحية أى النغمة الخفيضة، والهرم الأوسط يجسد وسط الشجرة، وهو الصورة الأنثوية للآلهة، أى إيزيس،.. وهكذا تتجمع كل أساطير ميثولوجيا المنطقة وتتجاور لتتكامل مع بعضها! علاقة أهل الكهف بالأهرام، موضوع شائك آخر يتطرق إليه الكتاب، حيث يكتب زكريا: «ألسنا مع أهرام الجيزة، 3 أهرام قربها أسد – كلب، و3 نائمون فى كهف وكلبهم قربهم أيضا؟ ثمة على الأقل شبه شكلى لا يمكن إنكاره!».. هكذا يعتبر المؤلف أنه قد حل لغز أبو الهول، اللغز الأبدى، فهو كلب، وليس أسداً كما نظن، وهو - كذلك - كلب أهل الكهف! اللافت فى الكتاب أنه أقرب ما يكون إلى مغامرة بلاغية، وبنيوية، فهو يستند إلى تفاسير لغوية، حيث يفسر المؤلف هذه الديانات- فى بعض الأحيان- من خلال «تذوقه» أبيات الشعر القديم، أو الدلالات التى توحى بها أسماء الآلهة مثلاً، بمعنى أن المؤلف يستند فى بعض النتائج إلى آرائه الخاصة! ويمكننا اعتبار هذا العمل فى مجمله بحثاً جمالياً، أكثر من كونه بحثاً أكاديمياً عن الحقيقة، لكن النتائج التى يتوصل إليها ليست إلا محاولة لإعادة فهم تراثنا الميثولوجى، التى قد تحتمل الصحة، وقد تحتمل الخطأ. عبادة إيزيس وأوزيريس فى مكة الجاهلية المؤلف: زكريا محمد عدد الصفحات:600 الناشر: آفاق