لم أكن أعرف أن هناك أناسا كثيرين فى حياتى لديهم حساسية من الفراولة. اكتشاف ذلك بالصدفة البحتة المتتالية هيّج بداخلى أُمنية قديمة بأن أعيش يوما ما تلك المتعة التى أراها فى عينى من يقدمون له كوبا من عصير الفراولة فيمد يده مزيحا الكوب ويقول بإباء وشمم: «مش هاقدر أصل عندى حساسية من الفراولة». جئت إلى هذه الدنيا دون أن يكون لدى حساسية من أى شىء، ولم تصبنى الحساسية أبدا رغم أنى أكلت على عربيات كبدة وسجق لو أكل عليها كلب ضال لاهتدى، وشربت عند بتوع عصير شرب عليهم الدهر ثم قضى حاجته، ودائما كنت أعتبر الحساسية أمرا لا يليق إلا بالأغنياء، لكن صديقى حمدى عبدالرحيم هو الذى أثبت أن الفقر يمكن أن يجتمع مع الحساسية، وأن الحساسية زى الفقر مش عيب، مرة من المرات، المرة التى مرت علينا منذ عشر سنين، تمردت معدته على ما ألقيناه لها من أكل ملوث، تطوعت بإعطائه برشاما ليأخذه قبل إيابه إلى بيته بصحراء ستة أكتوبر. وتطوع أخونا أكرم القصاص بالتصديق على نجاعة الدواء، فصدقناه لصلته الوثيقة بالعلم النابعة من كونه يومها كان يكتب عناوين الصفحة العلمية فى «الدستور». فى اليوم التالى أمطرتنا اللعنات عبر الهاتف من حمدى، الذى كان يجهل حساسيته لمادة السلفات التى كان الدواء مليئا بها، وأولاد الحلال رفاقه فى الميكروباص الذين أسعفوه إلى مستشفى ستة أكتوبر لم يتركوه إلا بعد سؤاله عما إذا كان يريد تقديم بلاغ ضد بلال وأكرم اللذين ظل يشتمهما طيلة وقت مغالبته لطعنات الألم. بعدها بأربع سنين ولا تتعجب إنها إرادة الله عرفت مواطنا مصريا مصابا بحساسية من الفول والطعمية، هو صديقى شريف عامر المذيع اللامع، كنا نعمل ساعتها فى مكتب «إم.بى.سى» بالقاهرة، جمعونا فى مكتب واحد ربما ليثبتوا قدرتهم على الجمع بين النبلاء والصيّع، كان شريف يذهب إلى المكتب مبكرا ليعمل بإخلاص، بينما كنت أذهب إلى المكتب متأخرا لأسأله «هناكل إيه النهارده؟»، كان ينظر إلىّ للحظات ربما ليتذكر من أنا أساسًا وما الذى جمعه بى ثم يضحك. يومها كنت قد أقمت وليمة عامرة من التابعى الدمياطى تضم ما لذ وطاب من الفول الغارق فى زيت الزيتون والطعمية المعجونة سمسما والنازة زيتا، فضلا عن كميات لا بأس بها من البتنجان بجميع موديلاته والبطاطس الصوابع والبطاطس المهروسة أو «البوريت»، كما كان يسميها ساعى المكتب، كان لابد أن ننتهى من الأكل سريعا قبل أن يحل علينا وفد شركة إعلانية كبرى قادم من لندن، ظل شريف ينظر إلى الأكل المفروش فوق مكتبى بارتياب ظننته كِبر أولاد ذوات، شخطت فيه بعشم « جرى إيه يا شريف.. ده إنت ابن منير عامر.. يعنى إبن بلد.. هى الريادة الإعلامية غيرتك». فكان لابد له أن يشتمنى شتيمة قبيحة على غير عادته لإثبات أصوله الشعبية القحة، وهو ما زاد عشمى لأحلف بالله وتالله العظيم تلاته وحياة بونا بيتيه الذى لا يأكل شريف إلا من سندوتشاته أن يأخذ منى طعمياية قبل أن ارميها فى فمه قسرا، ولكى يشترى روحه من رزالتى كشف لى سره الذى كان يخفيه اتقاء لسانى قائلا بصوت متلعثم: «مش هينفع أصل أنا عندى حساسية للفول والطعمية.. لو كلت فول أتنقل المستشفى على طول». وربما لأنه ابن حلال عقدت الدهشة لسانى بدلا من أن تطلقه بالتريقة، قلت له لو كنت متوضئا لسجدت لله شكرا لأنه لم يكتب لى أن أعيش بعذابك وإلا لكنت مت جوعا أو من أكل الكشرى باعتباره كان الاختيار الآخر فى مينيو الحياة لسنوات طويلة. كل هذا تذكرته بالأمس وأنا أتقلب فى عيادة الطبيب كبرص مقطوع الذيل بعد أن كادت أكلة كشرى بالكبدة من أحب عربيات الكشرى إلى قلبى تودى بحياتى وتوقف نبض قلبى، عندما قال لى الدكتور أن آخذ بالى لأن معدتى حساسة، انتفضت قائلا له إننى زى الفل وإن معدتى لا تعرف الإحساس، وإننى آكل الزلط غير مغسول لو أراد، لكننى مع تصاعد نوبة مغص جديدة هويت كورقة توت أو بالأصح كشجرة توت، وعندما رآنى الدكتور ساهمًا حاول مواساتى وسألنى «مالك.. سرحت فى إيه؟»، كدت أقول له إننى هاموت وأضرب مجددا علبة كشرى بالكبدة لكننى خفت أن أموت فعلا، فقلت له مافيش باحمد ربنا على السلامة والحساسية التى أراد لى ألا أموت من غير أن أصاب بها تماما ككل من لديهم حساسية من الفراولة. (من كتاب «ضحك مجروح» تحت الطبع) * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]