فى كل مرة يأتينى صوته عبر الهاتف من لندن، تقفز إلى سطح الحديث ذكريات (أبوظبى).. القناة التى كان لها قبل عشر سنوات شنة ورنة بين الفضائيات!.. يذكرنى محمد سعيد ببعض ما صادفنى من مغامرات أثناء مشاركتى فى تغطية الحرب على أفغانستان وعلى العراق، وأذكره ببرنامجه(مقص الرقيب) وحلقاته المميزة عن المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، وجرائم الإبادة الجماعية فى الصومال.. نتذكر معا كيف استيقظنا ذات صباح كئيب، بعد احتلال بغداد بأشهر قليلة، لنجد النظام العالمى الجديد قد صبغ قناة أبوظبى بلون لم نعهده!.. توارت القناة عن المنافسة رغم ما حققته من نجاح، وتفرقت السبل بأبنائها الذين تقاسمتهم شاشات أخرى!.. غابت عنى أخبار محمد سعيد فترة طويلة، حتى جمعنا العمل ثانية فى مؤسسة واحدة.. هو فى لندن وأنا فى القاهرة!.. قبل أسابيع قليلة فوجئت بحصوله على جائزة لجنة التحكيم فى مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية عن فيلمه (أى كلام)!.. كانت ملامح وجهه الطفولى أثناء حديثه لمراسلة الجزيرة مرسومة بفرح غير اعتيادى!.. قلت لنفسى إن محمد سعيد ينتصر لجيلنا!.. ساعدتنى الزميلة ريهام جودة الصحفية ب«المصرى اليوم» فى الحصول على نسخة من (أى كلام).. سبع عشرة دقيقة هى مدة الفيلم الذى لم يكن أبدا أى كلام!.. اختار صاحبه أن يكون صادقا وقاسيا، ساعده على ذلك خضوعه لعملية جراحية خطيرة لاستئصال ورم فى المخ!.. كلف أحد أصدقائه بمهمة حمل الكاميرا وتسجيل وقائع العملية بالكامل!.. كان محمد مستسلما لسريان المخدر فى عروقه، حين عاد إلى سيرته الأولى: طفلا صغيرا تجمعه مع والده صورة بالأبيض والأسود، ثم صور أخرى تتلون تدريجيا وتتوالى حتى تصل إلى محطات معينة فى مسيرته المهنية.. تراه فى لقطات تسجل اعتداءات المستوطنين اليهود على صحفيين ومصورين، ثم تراه فى الصومال يعرض مشهدا لنفر يجرون جثثا لا تدرى من أجهز على أصحابها؟!.. هنا تصطدم الطائرة الأولى بأحد برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك، فيطل وجهان: أسامة بن لادن صامتًا على غير عادته، وجورج بوش مرتبكا فى حديثه عن إرهاب يستهدف بلاده!.. ووسط ذلك كله يصور محمد سعيد صناع الأخبار فى مشهد تمثيلى وهم يحركون الإعلاميين كقطع شطرنج!.. ثم مشهد آخر للقائه مع مهاجرة مصرية تخبره بأن برنامجه (مقص الرقيب) كان يسليها أثناء إعداد الأكل فى المطبخ!.. تدفعه الصدمة ليرتدى ملابس مهرج، يمسك بالميكروفون على خلفية قصف بغداد ليبشر المتفرجين بطريقة مسرحية عن وجوده فى نقطة ما على خريطة الحرية فى الشرق الأوسط الجديد!.. هى اللحظة التى أمسك بها لإيقاظ ضميره، وليعرض ما اعتبره مساهمة منه فى بث معلومات مغلوطة.. استفز مسؤولا عراقيا فى نظام صدام حسين، بترديد اتهامات كان يسوقها الإعلام الأمريكى.. غضب المسؤول وأنهى الحوار وطلب شريط التسجيل.. خدعه محمد وأعطاه شريطا فارغا.. عن تلك الحادثة قال محمد سعيد فى مقابلة أجرتها معه الزميلة ريهام جودة إنه شعر بنفسه واحدا من الذين لفوا حبل المشنقة حول رقبة صدام حسين!.. نجح الطبيب فى استئصال الورم، ليقف محمد فى لقطة النهاية وحيدا فى صحراء واسعة، ليقرر فجأة الجرى صوب هدف بعيد، هاربا من معشوقته .. الكاميرا!.. حاكم محمد سعيد نفسه، ودفعنا جميعا كصحفيين وإعلاميين لننظر فى المرآة، على أمل أن نعترف يوما ما بأخطائنا المهنية! [email protected]