إن معظم ردود أفعال النظام ومؤيديه نحو الزيارة والخطاب الذى ألقاه أوباما اتسمت بقدر لا بأس به من الاتزان.. فلا أمنيات برخاء اقتصادى، ولا آمال فى حل سريع للمشكلة الفلسطينية، ولا قبول لبعض مقترحاته للبدء فى تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل بالتوازى مع بدء المفاوضات، مع إبداء قدر من الشكوك فى قدرته على ممارسة ضغوط فعالة عليها أو استجابتها له إن فعل. كما برز تيار ينتقد أوباما ويشكك فيه، رغم الاعتراف بأنه يختلف تمامًا عن سلفه بوش، سواء فى أساليبه أو بعض توجهات إدارته المتوحشة.. والثقة بأنه يريد تغييرًا حقيقيًا فى سياسات بلاده، وهى لمصلحتها أولاً، وقد تلتقى أو تتقاطع مع بعض مصالحنا كعرب. والرسالة التى وجهها كانت لهم أساسًا لا للعالم الإسلامى، لأنه سبقها بتوجيه رسائل للعالم الإسلامى عن سياسة المصالحة التى سيتبعها سواء فى كلمته التى ألقاها فى مجلس النواب بتركيا، وتبعها برسالة التهنئة التى وجهها إلى الشعب الإيرانى، بمناسبة عيد النيروز، وإعلانه عن سياسته فى الخروج من العراق، أى أن المصالحة تمت مع قطاع كبير من المسلمين فى العالم قبل مجيئه إلى مصر، ومن هنا جاء اهتمامه بالقضية الفلسطينية، والمصالحة بين العرب وإسرائيل، لإدراكه أن حلها بشكل يرضيهم إلى حد ما، هو المدخل إلى قلوب الشعوب لا الأنظمة، لأن قلوب الأنظمة وعقولها مع بلاده على طول الخط إذا توقفت عن مضايقتها بحكاية الديمقراطية، وهو ما حاوله بالتأكيد على عدم فرضها من الخارج، والشعوب العربية لم يكن يعنيها منه إلا ما يختص بالدرجة الأولى بقضاياها هى بفلسطين والعراق، أكثر مما تعنيها قضية أمريكا مع كل من أفغانستانوإيران، لأن التصفيق والتأييد والإعجاب بخطابه تم. والجميع على علم بأن موقفه من القاعدة وطالبان والحرب فى أفغانستان لن يختلف عن موقف بوش، ولأن كل من تحفظوا عليه كان تحفظهم مقرونًا بانتظار ما سيفعله مع إسرائيل والدولة الفلسطينية، وقضية الجولان فى سوريا، والخروج من العراق، لا انتظارًا لما سيفعله مع إيران أو أفغانستان. وهذه هى الملاحظة الأولى.. أما الثانية فهى أن التأييد والحب الذى لاقاه ويلاقيه أوباما حدث مثله، وإن كان بدرجة أقل، مع الرئيس الأمريكى الراحل جون كيندى، فقد سادت بينه وبين الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر علاقة متميزة رغم صدام السياسات، وحظى بحب فى المنطقة والعالم لأنه دعا لحلول لمشاكل الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعى، ولعب شبابه ووسامته التى تشبه نجوم السينما الأمريكية دورًا آخر فى شعبيته، وكان أكثر تفهمًا لطموح مصر فى تحقيق تنمية اقتصادية، ولهذا كان الحزن عميقًا عليه بعد اغتياله، كما حظى كلينتون بشعبية أخرى فى العالم، مماثلة لكيندى، لم يعكر صفوها إلا حكايته مع مونيكا، لكن شعبية أوباما لدى العالم الثالث والإسلامى، فاقت الجميع بسبب أصوله الإسلامية والأفريقية، وما يتمتع به من بلاغة فى الكلام، وأداء فى الخطابة بحيث يستميل إليه المستمعين الذين لا يفهمون ما يقوله بالإنجليزية، اكتفاء بتعبيرات عينيه ويديه، والتفاتاته يمينًا ويسارًا بحيث تدعم معانى الكلمات. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة على خطابه فكانت الضربة المؤلمة التى وجهها إلى قطاعات من المثقفين الذين يسمون أنفسهم ليبراليين، وتنويريين من الرجال والنساء، ولا هم لهم إلا مهاجمة حجاب النساء والفتيات، ومحاربته، وكأنه قضية مقدسة، ويربطون بينه وبين التخلف وانتشار التطرف الدينى، فأعطاهم أوباما درسًا، بل كشف تخلفهم وديكتاتوريتهم وعدم إيمانهم بحقوق المرأة وحرية الإنسان.. ومما قاله بالنص: «لا يمكن فصل الحرية فى أمريكا عن حرية إقامة الشعائر الدينية، وأيضًا السبب وراء خوض الحكومة الأمريكية إجراءات المقاضاة من أجل صون حق النساء والفتيات فى ارتداء الحجاب، ومعاقبة من يتجرأ على حرمانهن من ذلك الحق». وقال فى موضع آخر: «من الأهمية بمكان أن تمتنع البلدان الغربية عن وضع العقبات أمام المواطنين المسلمين لمنعهم من التعبير عن دينهم الذى يعتبرونه مناسبًا، فعلى سبيل المثال، عن طريق فرض الثياب التى ينبغى على المرأة المسلمة أن ترتديها، إننا ببساطة لا نستطيع التظاهر بالليبرالية عن طريق التستر على معاداة أى دين». وقال أيضًا: «أرفض الرأى الذى يعبر عنه البعض فى الغرب، ويعتبر المرأة التى تختار غطاء لشعرها أقل شأنا من غيرها». صحيح أن الهجوم موجه أساسًا إلى فرنسا وبعض الدول الأوروبية التى جرمت ذهاب التلميذات المسلمات للمدارس بالحجاب، وحدثت أزمة عنيفة فى فرنسا ومظاهرات مؤيدة ومعارضة. وقال الفرنسيون إن المنع لا يطبق على المسلمات فقط، وإنما على كل من ترتدى زيًا دينيًا، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو بوذية، وامتدت المعركة إلى مصر بنفس درجة العنف فى الخلافات، وأيد فريق موقف الحكومة الفرنسية بمن فى ذلك شيخ الأزهر الذى اعتبر ذلك من سياسات الحكومات، وهلل من قالوا إنهم ليبراليون وتنويريون وكأنهم انتصروا ضد الحجاب فى مصر، ومنهم من سبق أن أيد النظام فى تونس الذى يعتبر الحجاب زيًا طائفيًا، ويمنع موظفات الحكومة من ارتدائه، وفى تركيا رفض القادة العسكريون حضور حفل لرئيس الجمهورية لأن زوجته محجبة، ويعارض العلمانيون وأنصار أتاتورك السماح للطالبات الجامعيات بدخول الجامعات بالحجاب. وفى مصر بلد الأزهر والذى كان إحدى الجهات التى وجهت الدعوة للحضور للاستماع لخطاب أوباما، قاتل تليفزيون الحكومة لمنع ظهور أى مذيعات محجبات، وأحال بعضهن فى القناة الخامسة إلى أعمال إدارية حتى لا يزعج المشاهدين بحجابهن، إلى أن صدر حكم قضائى لصالحهن، والغريب أن يصرخ عدد من دعاة الحرية والليبرالية وحق المرأة مؤيدين التليفزيون، على أساس أن كل جهة عمل حرة فى تحديد الزى لمن يعملون لديها، بينما تليفزيون ال«بى. بى. سى» فيه مذيعات محجبات.. وفى البيت الأبيض منذ أيام كلينتون موظفات محجبات، واستمر هذا الوضع فى عهد بوش، المتعصب الذى أطلق صرخة (إنها الحرب الصليبية) بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. أما أوباما فقد اختار ضمن فريق مستشاريه المصرية - الأمريكية المحجبة داليا مجاهد، التى يجرى التليفزيون الحكومى معها حوارات ومقابلات.. دون أن يسمح بظهور مذيعة محجبة، ولم نقرأ شكرًا من النساء المصريات الليبراليات إشادة بذلك، ولو من باب التحيز لمصرية مثلهن، فهل نتوقع منهن ومن الرجال من أمثالهن ترحيبًا بما قاله أوباما عن الحجاب أم سيعتبرونه عضواً فى «المحظورة»؟.