حسناً فعلت مصر برفضها يهودية دولة إسرائيل، صحيح أن قاعدة يهودية الدولة تعنى إهدار حقوق العرب داخل إسرائيل وتسقط مجانياً حق عودة اللاجئين، لكن تأثير ذلك سوف يمتد إلى المنطقة كلها.. ويقتضى الأمر منا تأملاً جاداً وعودة إلى الماضى القريب. حين صدر قرار التقسيم فى نوفمبر 1947 أحدث هزة ثقافية وعقلية فى المنطقة، وساهم فى ضرب المشروع الليبرالى بمصر وبلاد المنطقة، لقد فهم القرار هنا على أنه يعنى قيام دولة دينية، دولة تنطلق من القاعدة اليهودية، خاصة أنه صدر قرار آخر فى نفس التوقيت بتقسيم شبه القارة الهندية وإقامة باكستان دولة للمسلمين فى المقام الأول، وأظن أن قرار التقسيم كان إنعاشاً لأفكار جماعة الإخوان والجماعات الأصولية، فقد كنا أمام حالتين تقوم فيهما الدولة على أساس دينى.. يهودى أو إسلامى، وأعتقد أن ذلك عجّل بتحول سيد قطب إلى كاتب أصولى متزمت، وتلقت فكرة الدولة المدنية والأفكار الليبرالية ضربة فى الصميم.. وتأكد ذلك بعد إعلان قيام دولة إسرائيل وما جرى عام 1948. وكانت إسرائيل تحاول أن تنفى عن نفسها فكرة أنها دولة دينية، بإبراز ما يتمتع به عرب فلسطين سواء المسلمون السُنة أو المسلمون الدروز، أو المسيحيون من حقوق، وأنها دولة تُريد السلام مع جيرانها من الدول العربية، بينما هم يُريدون تدميرها، وملأت إسرائيل الدنيا صياحاً أنها دولة ديمقراطية.. تعمها الحرية فى محيط من الديكتاتورية والاستبداد.. وقد تكون إسرائيل ديمقراطية بالنسبة لمواطنيها من اليهود، لكنها ليست كذلك مع غيرهم، فهى دولة مفتوحة لكل يهودى فى العالم كى يتوطن ويتجنس بجنسيتها، بينما العرب مواطنون من الدرجة الثانية فى كثير من الأمور، وها هى الآن مع رئيس الحكومة نتنياهو ووزير خارجيته ليبرمان يسقطون جميع الأقنعة ويتحدثون علناً عن يهودية الدولة ويريدون تقنين وإصدار تشريع خاص من الكنيست بهذا المعنى. التطرف لا يفرز إلا تطرفاً، والتشدد ينتج تشدداً أكثر، ولذا ليس غريباً أن تفرز إسرائيل وما تقوم به من عنصرية بغيضة تجاه الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة «حماس».. وفى لبنان «حزب الله».. وفى مصر وبلاد المنطقة الاتجاهات الأصولية، والمسألة فى تبادل مستمر، حين يكون «خالد مشعل» على رأس حماس يصبح طبيعياً أن يكون «نتنياهو» ومعه «ليبرمان» على رأس الحكومة الإسرائيلية.. من بدأ ومن جاء قبل من..؟ لا يهم، فهى حلقة جهنمية من التشدد والتطرف، وقد نتج هذا كله قبل أن تعلن إسرائيل - رسمياً وتشريعياً - يهودية الدولة! إسرائيل الآن تحتل أراضى الضفة وتحاصر القطاع، وتحتل الجولان كذلك، ولم يتحقق السلام مع لبنان، صحيح أن قرار وقف إطلاق النار فى سنة 2006 ألزم حزب الله بعدم استعمال السلاح ضد إسرائيل، وأثبت السيد حسن نصر الله التزامه بذلك، وكفت إسرائيل عن هجماتها على قرى الجنوب اللبنانى، لكن ذلك كله أقرب إلى هدنة هشة، يمكن أن تسقط فى أى لحظة، وعرضت الدول العربية مجتمعة السلام على إسرائيل، من خلال المبادرة العربية التى قدمتها جامعة الدول العربية، وإسرائيل هى التى ترفض، وفوق ذلك كله يعلن عن الشروع فى تطبيق «يهودية الدولة».. ومن ثم فالقول السابق بأن الصهيونية حركة قومية - علمانية أصبح بلا مضمون، ونحن بإزاء دولة دينية، بأقسى وأسوأ معانى الكلمة، وهذا ينعش كل التيارات والاتجاهات المتطرفة فى العالم العربى، بل يؤدى إلى إفراز المزيد والمزيد منها، أما الاتجاهات العقلانية والمعتدلة ودعاة الليبرالية والمواطنة والدولة المدنية، فلا مكان لهم، ذلك أن الدولة من الآن تصبح الدولة الدينية، بدأنا بالدولة اليهودية، فلابد أن يكون أمامها دولة أو دول إسلامية، ويصبح من اللائق فى هذا التصنيف وجود دولة أو إمارة مسيحية.. وتتشظى المنطقة، وتكون الحروب والصراعات دينية فى المقام الأول.. وبدلاً من السعى نحو الدولة المدنية.. دولة الدستور والقانون والمواطنة والحريات العامة والخاصة، نهرول نحو دولة العمائم بمختلف ألوانها والقلنسوة والطاقية. إسرائيل دولة متقدمة تكنولوجياً لديها ترسانة نووية، ولديها صناعة عسكرية متفوقة، حتى إن روسيا سعت لاستيراد طائرات بدون طيار من إسرائيل، وذلك لأن الطائرات الإسرائيلية أظهرت تفوقاً شديداً على الطائرات الروسية فى حرب جورجيا العام الماضى، وبين أفضل خمسمائة جامعة على العالم هناك ست جامعات فى إسرائيل، لكنها فى تعاملها مع الفلسطينيين ومع الدول العربية المحيطة بها دولة ثيوقراطية، لاتزال تقبع فى غياهب العصور الوسطى، وأن تمتلك دولة بهذا المعنى أحدث الأسلحة وأدوات التقدم العلمى فإنها تصبح خطراً محققاً على من حولها، فضلاً عن المواطنين غير اليهود داخلها، الذين هم أبناء الأرض منذ أجيال بعيدة وقرون ممتدة. الغريب أننا إلى الآن لم نتعامل مع تلك الكارثة بالجدية المطلوبة، صحيح أن الرئيس مبارك أبلغ نتنياهو رفض مصر تلك الخطوة، لكن ماذا عن الجامعة العربية وخطيبها المفوّه عمرو موسى.. وماذا عن دول الممانعة؟! بعيداً عن الشق الرسمى، ماذا عن جماعات المثقفين ودعاة الدولة المدنية والليبراليين القدامى والجدد وأنصار السلام بمختلف مسمياتهم؟ هل ننتظر أن تحقق حكومة نتنياهو خطوتها، وتصبح واقعاً ثم نثور ونغضب بعد ذلك كما حدث فى مواقف سابقة؟! لقد أعاق وجود إسرائيل سنة 1948 بناء الدولة المدنية الحديثة فى مصر وبلاد الشام، أو بلاد الطوق، وغيرها من معظم بلاد المنطقة، وفى 1967 ضربت إسرائيل الدولة القومية والوطنية فى العالم العربى، وها هى تتجه إلى أن تعلن رسمياً قيام الدولة الدينية فى المنطقة. إن شمشون الجبار ينتفض ليدمر المنطقة بالكامل، ويقضى على أى حُلم بالنهوض والتمدين.