يصر «بنيامين نتنياهو» وحكومته على أن تكون إسرائيل دولة يهودية، ويعتبر أن عدم اعتراف السلطة الوطنية الفلسطينية بيهودية إسرائيل، السبب فى عدم مواصلة المفاوضات المباشرة، ويبدو أن نتنياهو يحقق نجاحاً فى ذلك، فلم يجد اعتراضاً من الولاياتالمتحدة ولا من الاتحاد الأوروبى ولا من الأممالمتحدة، التى أقرت قيام إسرائيل ومنحتها «الشرعية الدولية».. شرعية الوجود أولاً والبقاء ثانياً. وما يقوم به نتنياهو الآن سوف ينعكس سلباً على المواطنين العرب داخل إسرائيل، والأجيال الطالعة منهم، خاصة فى الحصول على الجنسية الإسرائيلية، فضلاً عن أنه يسقط مجانياً حقوق اللاجئين الفلسطينيين. حين كان السعى الصهيونى يجرى منذ وعد بلفور لإنشاء «وطن قومى» لليهود على أرض فلسطين، كان الخطاب الصهيونى يركز على أن الصهيونية هى فكرة ودعوة «إحياء قومى» وأنها مثل «القومية العربية»، ومن لم يكن يصدق ذلك من العرب، كان يتصور أن الصهيونية حركة شيوعية، وأن دولتهم التى يريدون إقامتها سوف تكون بؤرة شيوعية فى المنطقة، وكان الملك فاروق نفسه من أصحاب هذا الرأى، وشاركه فيه آخرون داخل مصر وخارجها، وبنى هؤلاء تصورهم على أن كثيراً من قادة الصهيونية انحدروا من أوروبا الشرقية (آنذاك)، وكان نموذج الحياة والعمل فى «الكيوبتزات» يوحى بذلك، حيث كانت تلك «الكيوبتزات» تحمل بعض ملامح العمل والحياة فى روسيا الستالينية.. لكن الصهاينة الكبار كانوا يصرون على البعد القومى فى حركتهم وفى مشروعهم لإقامة الدولة، وفى الخمسينيات وحتى سنة 1967 كانت إسرائيل تباهى بأنها منحت الجنسية للمواطنين العرب فيها أو عرب 1948، وأنها لا تميز ضدهم فى الحقوق العامة والخدمات. ويمكن القول مجدداً إن إنشاء إسرائيل فى مايو 1948، بل صدور قرار التقسيم فى نوفمبر 1947 أحيا لدى قطاع واسع من الجماهير العربية فكرة إقامة الدولة الدينية، وإن العقيدة الدينية فقط هى أساس بناء ومشروعية الدولة.. وكان الخطاب القومى العربى - وكذلك الليبرالى - يقوم على التفريق والتمييز بين اليهودى والصهيونى.. وبين اليهودية كديانة سماوية والصهيونية باعتبارها نظرية استيطانية، استعمارية فى نهاية الأمر، وأعتقد أن التمييز صحيح، فليس كل يهودى صهيونياً. هناك يهود يرفضون الصهيونية، وهناك يهود ضد وجود دولة إسرائيل، وهناك الآن صهاينة ليسوا يهوداً، خاصة فى دول الغرب، فى الولاياتالمتحدة هناك مسيحيون صهاينة، وتأسيساً على هذا التفريق وجدنا منظمة التحرير الفلسطينية تتبنى الخطاب القومى في تعاملها مع إسرائيل ومقاومتها لها، منذ نشأتها وحتى توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، رغم أن ياسر عرفات بدأ حياته منخرطاً فى جماعة الإخوان. ولأسباب عديدة دولية وإقليمية ومحلية أيضاً، تراجعت الفكرة القومية وبرزت الأصولية والتشدد الدينى، وكانت الولاياتالمتحدة لاعباً رئيسياً فى خلق وتقوية هذا التشدد فى بلدان ومجتمعات المنطقة العربية والإسلامية، وهناك الكثير من الوثائق والدراسات الأمريكية تؤكد ذلك الدور، فحين غزا الاتحاد السوفيتى أفغانستان كان الرد «إسلامياً عاماً» ولم نفهم ذلك الغزو على أنه اجتياح استعمارى من دولة عظمى لجارة لها صغيرة، أو تدخل عسكرى غير مقبول على نحو ما سبق للاتحاد السوفيتى أن فعله فى المجر سنة 1956.. لكن كان التفسير أن دولة ملحدة، شيوعية كافرة، تعتدى على بلد الإسلام. وتوازى مع ذلك قيام ثورة إيران سنة 1979، وسيادة فكرة ومبدأ «ولاية الفقيه»، وفى الحرب الأهلية اللبنانية ظهرت الدعوة لإنشاء دولة للمسيحيين، فكان الرد بتأسيس ميلشيات «أمل» ثم «حزب الله». فى التوقيت نفسه، كان التشدد والتطرف فى إسرائيل ينمو ويتزايد فوجدنا مناحم بيجين قد شكل الحكومة سنة 1977، وتم اغتيال رابين من متطرف إسرائيلى، ومن يومها والتطرف فى ازدياد، ومن يراجع فتاوى حاخامات إسرائيل، يجد أن بعضها ملىء بالعنصرية الكاملة، والآن فإن التطرف والتشدد الإسرائيلى ينتقل من بعض الأحزاب الصغيرة وبعض الحاخامات والمدارس الدينية ليصبح عنواناً للدولة ويشكل هويتها.. وقيام دولة يهودية يعنى ضمنياً قيام دولة إسلامية وأخرى مسيحية.. وها نحن نرى المشهد أمامنا فى العراق. تنظيم القاعدة (سنى) فى مواجهة ميلشيات شيعية، وفى بعض دول الخليج احتكاك (سنى / شيعى)، يوشك أن ينفجر أو ينفلت فى أى لحظة.. وعلى حدودنا الجنوبية فى السودان، يوشك أن ينفصل الجنوب عن الشمال، ورغم أن قادة الجنوب يتحدثون عن أنهم سوف يؤسسون دولة علمانية ديمقراطية، ففى الخلفية أن الجنوب سيكون دولة للأفارقة وللمسيحيين أمام دولة الشمال للعرب وللمسلمين، ومن بين دول العالم يتحدث الجنوبيون أنهم سيبدأون بافتتاح سفارة إسرائيلية فى «جوبا». تحول إسرائيل من الدولة العبرية إلى الدولة اليهودية خطر حقيقى، يجب التحسب له ومواجهته بالدولة الوطنية المدنية الحديثة.