أود أولاً أن أؤكد أن ما أكتبه اليوم هو وجهة نظر خاصة بى، تكونت عبر سنين من العمل بوزارة الصحة وخبرات متراكمة حول نظام العلاج الأشهر فى مصر، وهو ما يسمى «العلاج على نفقة الدولة».. وما دعانى للكتابة عنه أنه كان محور مناقشات ومناوشات بمجلس الشعب فى الأيام القليلة الماضية عند مناقشة الموازنة العامة للدولة. أزعم أننى كنت من أوائل المعارضين للتوسع العشوائى فى هذا النظام، الذى بدأ فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى بدون دراسات أو إحصائيات أو حتى مناقشات علمية ومجتمعية، بل كان نتاج أفكار وزير الصحة فى ذلك الوقت، وأيده حينئذ قيادات سياسية وشعبية، لأسباب لا تخفى على أحد ظاهرها الرحمة وباطنها الخراب، طالما أن ذلك يحقق لهم شعبية زائفة!! وبنظرة قصيرة للأمر تم تدريجياً إلغاء ما كان يُعرف بالعلاج المجانى للفقراء ومحدودى الدخل، وتقلص إلى حد كبير ما كان يسمى بالعلاج الاقتصادى لمتوسطى الحال الذين كانوا يساهمون بجزء فى علاجهم، فى نفس الوقت الذى فتح فيه الباب على مصراعيه لأصحاب النفوذ والسلطان والصوت العالى لعلاج كل من يمت لهم بصلة للعلاج على نفقة الدولة!! وللأسف الشديد، فعلى الرغم من إدراك خطورة الأمر فى السنوات الأولى للألفية الثانية، ومحاولة ترشيد هذا العلاج بجعله يشترط وجود لجنة ثلاثية تقرر الأحقية فى هذا العلاج - وكان هذا الشرط هو اقتراح لى فى إحدى المقالات التى ذكرتها - فإن أحداً لم يستطع إيقاف التوسع السرطانى فى استخدام أو بالأحرى إساءة استخدام هذا النظام.. إن المجال لا يسمح هنا بتعداد مساوئ هذا النظام وتأثيراته السلبية على مجمل القطاع الطبى فى مصر بل وعلى حتى القيم الاجتماعية والمبادئ الإنسانية، خاصة أننى أعرف أن إلغاء هذا النظام فى الوقت الحالى أمر فى غاية الصعوبة لأنه سوف يواجه بسيل من الاتهامات والافتراءات والادعاءات خاصة من السادة أصحاب المصلحة فى استمرار هذا النظام من أعضاء مجلسى الشعب والشورى وبعض الصحفيين الذين يملكون أدوات التشهير وتشويه الحقائق فهؤلاء هم أكثر الفئات شراسة فى الدفاع عن النظام الحالى للعلاج على نفقة الدولة، لأنه ببساطة شديدة يحقق لهم مصالح شخصية باكتساب الشعبية فى دوائرهم والدوائر المحيطة بهم على حساب المصلحة العامة للدولة.. فهم يجاملون و«يتمنظرون» وينفقون ليس من جيبهم الخاص ولكن من جيب الدولة التعيسة!! إننى فقط فى هذه المرحلة أتمنى من وزارة الصحة وبمساندة قوية من الحكومة تغيير مسمى هذا النظام فى جميع الأوراق والمستندات إلى «نظام علاج الفقراء ومحدودى الدخل».. وأن يكون هذا هو عنوان الطلب الذى يقدم إلى المجالس الطبية «طلب علاج مريض فقير/ محدود الدخل».. وأن يكون هذا أيضاً هو عنوان القرار الذى يصدر مذيلاً بإمضاء وزير الصحة.. وأن يعاد تنظيم المجالس الطبية بحيث لا يتم تسلم مثل هذا الطلب إلا مرفقاً به استمارة بحث اجتماعى مؤشر عليها بأن الطالب يستحق ذلك فعلاً.. وأن يكون تسلم هذه الطلبات - التى يجب أن تكون صادرة من مستشفى متخصص وليس من أفراد مهما علا شأنهم ووضعوا أختامهم - بطريقة أوتوماتيكية لا يتم فهيا تعامل شخصى، حسب كل تخصص، وأن يتم تسليم القرارات بنفس الطريقة بعد 48 ساعة على الأكثر، على أن تكون مبالغ القرارات الصادرة مناسبة تماماً للعلاج المطلوب وليست بالطريقة العشوائية الحادثة الآن.. على أن يقتصر إصدار مثل هذه القرارات على العمليات الجراحية الكبرى وذات المهارة والمتقدمة.. أما حالات العلاجات الشهرية للأمراض المزمنة فيتم ذلك فى المستشفيات المركزية على مستوى المحافظات ويخصص لكل مستشفى حصة من العلاج تناسب عدد المرضى الذين يترددون عليه، ولا بأس من مساهمة المريض بنسبة ولو ضئيلة فى هذه العلاجات. إننى لا أريد أن يفهم أحد من كلامى هذا أننى أريد تعقيد الأمور أمام علاج الفقراء، بل على العكس تماماً، فإن ما أدعو إليه هو توفير المبالغ الطائلة التى تنفق تحت مسمى «العلاج على نفقة الدولة» والتى يتم ضياع ما يقرب من 50٪ منها فى علاج مرضى قادرين وموسرين، ليتم بها زيادة الميزانيات المقررة للمستشفيات الكبرى والمركزية، لتتولى علاج الفقراء بالمجان، وبدون قرارات أو وساطة أحد.. وذلك يستتبع أن يخصص بكل مستشفى كبير أو مركزى أو تعليمى ثلث أَسِرَّته للعلاج المجانى للفقراء ومحدودى الدخل يصرف عليه من تلك الميزانية المرصودة له من الدولة والذى يخصص بكامله لهذا الغرض، وثلث آخر للعلاج الاقتصادى الذى يغطى تكلفته مع هامش ربح بسيط للغاية، وثلث أخير لعلاج حالات القادرين والمؤمن عليهم ولتعاقدات الشركات والمؤسسات بهامش ربح معقول يستطيع معه المستشفى أن يقوم بعمليات تطوير وتجديد. إن هذا الأمر يتطلب بالتأكيد متطلبات ليست كلها متوفرة الآن، وفى مقدمتها قيادات إدارية طبية للمراكز والمستشفيات الطبية الكبيرة على مستوى عال من الالتزام الخلقى والمهنى، وألا يسمح لأحد بالتدخل لفرض قانون الواسطة والمحسوبية والمجاملات عليهم، وقبل كل شىء أن يراعى الجميع الله والوطن ويضعوا مصلحة الغالبية العظمى من جموع هذا الشعب فوق كل اعتبار آخر.. يومها فقط يمكن إلغاء هذا النظام «الكارثة» المستمر منذ حوالى سنوات عشر أو يزيد، ونوقف تيار المزايدة باسم فقراء الشعب المصرى.