ذهبت أبحث عن فنى لإصلاح الدش الذى تعطل، فوصف لى أولاد الحلال «كهربائى» على ناصية الشارع. توجهت إليه وشرحت له الموضوع. قال لى بلهجة جديّة: قدّر الله وما شاء فعل. هززت رأسى موافقاً، وانتظرت أن يتحرك معى لكنه بقى داخل الدكان وكأننى لست موجوداً. اضطررت إلى تنبيهه إلى أننى أقف فى انتظاره. رد بأنه لن يستطيع أن يأتى معى قبل صلاة العصر. نظرت إلى الساعة فوجدت أن موعد أذان العصر يأتى بعد حوالى 45 دقيقة. عندما قلت له هذا قال: قدّر الله وما شاء فعل! قلت له فى دهشة: قدّر الله وما شاء فعل إزاى يعنى.. أنا أحدثك حديثاً لا يحتمل الرد بهذه الجملة التى أراها خالية من المعنى فى هذا السياق. رد فى هدوء: بعد الصلاة أذهب معك، ثم قدّم لى كرسياً لأجلس عليه. جلست عنده أقرأ الجريدة وأنا لا أفهم لماذا يضيع الوقت بهذا الشكل، حتى اقترب موعد الصلاة فذهبت معه للزاوية المجاورة وفوجئت بأنه هو من يؤذن للصلاة. استفزتنى جداً طريقته فى الأذان التى تشى بجهل وعدم قدرة على فهم ما ينطق به. بدأ الأذان قائلاً: أشهد أنّ لا إله إلا الله. لم أفهم كيف سمحت له نفسه أن ينطق النون مشددة مع أن أى طفل يعرف أنها لا بد أن تنطق ساكنة، وأدهشنى بعد الصلاة أن السادة المصلين- ومنهم الطبيب والمهندس والمحامى والضابط- كانوا يتعاملون مع هذا الكهربائى الجاهل بإجلال لا يستحقه كما لو كان فقيهاً عظيماً لمجرد أنه لا يكف عن ترديد جملة تقول: «قدّر الله وما شاء فعل» بمناسبة وبدون مناسبة! بعد الصلاة تعطف علىّ وحضر معى إلى البيت. عنّ لى أن أسأله عن اسمه فأجاب: إبراهيم إن شاء الله! لم أستطع أن أمسك نفسى من الضحك وقلت له: إبراهيم إن شاء الله يعنى إيه؟ يا حبيبى أنا لا أسألك عن شىء تنوى فعله فى المستقبل.. أنا أسأل عن اسمك، ولا يخالجنى شك فى أن الله قد شاء بالفعل أن يكون اسمك إبراهيم! نظر إلىّ فى دهشة ووشى وجهه بغضب بدأ يعتمل فى نفسه. وجدت فى نفسى إصراراً على أن أعرف إذا كان قد فهم ما أقول أم لا فأعدت عليه الكلام مرة أخرى، وشرحت له أن «إن شاء الله» هذه تستعمل فى الحديث عن المستقبل لا عن الماضى. رد فى تهكم: يعنى حضرتك زعلان بسبب ذكر اسم الله؟ قلت له فى فزع: يا نهار إسود ومنيّل.. هل هذا هو ما فهمته من كلامى، ثم أدركت عبث ما أفعل وقررت ألا أستمر فى الحديث معه. طلب منى قلماً فسحبت القلم من جيبى وأعطيته له. بعد أن عاين السلك نظر نحوى فى هدوء وقال: 80 جنيه إن شاء الله. قلت له: لقد قام العامل منذ شهرين بتركيب الدش كله بخمسين جنيها وأنت تطلب ثمانين جنيها فى لحام سلك متآكل؟ قال بنفس الهدوء: مهمتى تتحدد فى عمليتين، الأولى هى الكشف على الطبق، والأخرى هى ربط السلك المقطوع بشريط اللحام، والعمليتان تتكلفان ثمانين جنيهاً فإذا وافقت أكملت العمل وإذا لم توافق فادفع لى أربعين جنيها قيمة الكشف! شعرت بغضب من هذا الإنسان الهادئ الذى يسرقنى وهو يردد جملاً خالية من المعنى يظن لها علاقة بالدين. لم أدر ماذا أفعل، لكننى فى النهاية قررت الموافقة حتى لا أضيع المزيد من الوقت مع شخص لا يفرق معه الوقت. أخذ يصعد إلى السطوح ويهبط ويقص فى السلك قطعة من هنا وقطعة من هناك حتى لم يعد السلك يصل إلى الشقة، ثم أعلن لى وهو فى حالة سعادة واضحة ضرورة شراء سلك جديد. لمح الغضب فى وجهى فقال لى جملته الأثيرة: قدّر الله وما شاء فعل. قدّمت له نقوداً وأنا أجزّ على أسنانى ورجوته أن يحضر السلك سريعاً حتى تنتهى هذه الليلة على خير. طلب منى من خلال ابتسامته أن أبعث أحداً آخر لشراء السلك لأنه- على حد قوله- فنى إصلاح وليس صبى مشاوير! اجتاحنى شعور بالغضب وأحسست أننى أتعرض للتلاعب بى على يد شخص جاهل وخبيث ولص لا يجتهد حتى فى تحسين أدواته، ويعتمد اعتماداً كلياً على حالة الخوار العام التى أصابت الجميع وجعلتهم يتعاملون مع هذا الفسل باعتباره من أولياء الله الصالحين مع أنه لا يحسن قراءة آية قرآنية، وشعرت بحسرة على مصر عندما تصورت موقف الناس مع الأشرار المحترفين الذين يحسنون الكلام على عكس هذا الولد، وكيف أنهم يعتبرون المشعوذين ومفسرى الأحلام هم الصواريخ التى ستحملهم إلى الجنة!. أخرجت له 40 جنيها وقلت: خذ قيمة الكشف يا دكتور وانصرف بسرعة من هنا لو سمحت، ثم أغلقت وراءه الباب. بعد ثوانٍ اكتشفت أنه رحل ومعه قلمى الغالى فجريت وراءه ولحقته أسفل العمارة. طلبت القلم فأنكر وجوده معه وأكد أنه أعاده لى، ثم ربّت على كتفى فى حنان وهو ينظر فى عينى قائلاً: قدّر الله وما شاء فعل!