عدلى رزق الله.. عصفور الكناريا

قال لى فى زيارتى الأخيرة له فى الشهر الماضى إن الأصدقاء كانوا يطلقون على أبى «عصفور الكناريا الأخضر». وقال إن نفس اللقب كان يُطلق عليه أيضا. وعندما علمت برحيله يوم الخميس الماضى تملكتنى صورة عدلى رزق الله كعصفور كناريا أخضر قد مرق من قفص الجسد ومن القضبان الحديدية للعالم المادى، وانطلق مغردا إلى حيث باقى العصافير.
أعرف عدلى رزق الله الفنان منذ سنوات عديدة، أعرف مائياته الرقيقة الشفافة التى تكاد تكشف عن حياة أخرى وراء ما يرسم من وردات قانية الحمرة على خلفية من ألوان ناعمة، قلوب حمراء تنبض بالعشق فى صحراء الحياة، أعرف نساءه اللاتى يسرن كنخلات فارعة تحمل تمرا ولبنا، نساء يذكرنك بالأم الأولى إيزيس، أعرف افتتانه بالشعر الذى جعله يتعاون مع شعراء مصريين: لوحات عدلى إلى اليسار، الشعر إلى يمين الصفحات. لكننى لم ألتق به إلا منذ عامين لا أكثر. وفى تلك الفترة لم يتح لى أن أعرفه بما يكفى، فقلت لنفسى صباح يوم الخميس: «الآن سأتعرف على عدلى».
سأبدأ التعرف على عدلى رزق الله الذى رفض كل أشكال التقسيمات فرأى فى نفسه صعيدياً قاهرياً باريسياً قبطياً مسلماً. عدلى هو الذى قال: «اندمجت فى خلاياى كل هذه الانتماءات وذابت». سأتأمل هذا الحماس للعمل والإنتاج والتغيير الذى لم يخب لحظة واحدة حتى مع المرض. لقد ظل عدلى يحلم بتعليم الصغار والكبار كيف يرون، فأصدر عن «نهضة مصر» أجزاء من سلسلة «كيف ترى؟» حيث قدم بشكل بسيط وعميق القواعد الأولى لتذوق الفن، لرؤيته، للإحساس به. سأحاول أن أتعرف على هذا الفنان الذى لم ييأس أبدا.
فى الجزء الثانى من سيرته الذاتية «الطريق فى الفن وفى الحياة» يقول عدلى لابنتيه «تمر» و«داليا»: «كنت جاهلا فى شبابى المبكر فحلمت بتغيير العالم. مرت السنوات، قل جهلى قليلا فحلمت بتغيير المنطقة العربية. مرت السنوات، قل جهلى قليلا فحلمت بتغيير مصر. مرت السنوات، قل جهلى قليلا فحلمت بتغيير ما يقدم للأطفال من فن، بالإضافة إلى تغيير الحركة التشكيلية. مرت السنوات وقل جهلى كثيرا فقنعت بأن أعمل 300 يوم فى السنة، كأى عامل يعمل 12 ساعة فى اليوم، وهذا ما أقدر عليه».
فى لقائى الأخير به تحدث عدلى رزق الله عن تجربة المرض، تحدث بحب وفخر عن مستشفى المنصورة الجامعى، كما حاول إخفاء المرارة من تجاهل وزارة الثقافة علاجه، واكتفاء صندوق التنمية الثقافية بشراء بعض لوحاته، لكن الجزء الأكبر من الحديث كان عن كل تلك المشاريع التى ما زالت قيد الحلم. واليوم، الآن، أقول لعدلى: لقد عشت مفعما بالحلم وفاعلا ما قدرت عليه، اشتغلت «كأى عامل» 12 ساعة فى اليوم، أثريت الحركة التشكيلية بلوحاتك، كتبت ورسمت للأطفال،
حاولت أن تعلمنا كيف نرى، تركت لنا رحيق تجربتك وحكمة أيامك فى سيرتك الذاتية، تركتها كرسالة فى زجاجة مختومة (كما قلت أنت)، أجدت إغلاقها ورميتها فى الماء، لعل وعسى، مارست استقلاليتك بأن عشت من الفن فقط رافضا قيود الوظيفة فبقيت كاهنا فى محراب الفن، هكذا عشت يا عدلى، عصفور كناريا أخضر أفقه هو السماء، وهكذا ترحل أيضا.