عندما يؤرخ لمسيرة الكنيسة فى النصف الثانى من القرن العشرين وبواكير القرن الواحد والعشرين، سيتوقف المؤرخ عند يوم 14/11/ 1971- يوم تجليس قداسة البابا شنودة الثالث على الكرسى البابوى-باعتباره يوماً فارقاً فى تاريخ الموقع ومن ثم الكنيسة، فقبله كانت مهام الجالس عليه منحصرة فى الإطار الروحى والتدبيرى الرعوى، شأن السواد الأعظم للبطاركة على مدى تاريخ الكنيسة، وبعده تضافرت عوامل عديدة ذاتية وعامة، وتحولات درامية فى فضاء سياسة الدولة، لتضفى على الموقع أبعاداً دولية وشعبية وسياسية، كانت هناك فى الأفق غيوم تتجمع ونذر بأحداث جسام تنتظر الشارع المصرى، فى مقابل شخصية كنسية قيادية متفردة لديها حس سياسى وتاريخ نضالى لا تنقصه شجاعة المواجهة، ولا الحضور الطاغى وربما الآسر، والقبول الجماهيرى على خلفية ثقافية وروحية ومعلوماتية أعادت للكنيسة نموذج البابا المعلم فى لغة جديدة لا تتعالى على المتلقى ولا تسجن نفسها فى الشكل التقليدى السائد وقتها، والمحكوم بالمحسنات البديعية والألفاظ عسرة الفهم، وكانت مدخله إلى عقول وقلوب الشارع القبطى. تسارعت الأحداث وتصاعدت مع إعادة إحياء التيارات السلفية المتطرفة فى مواجهة قوى اليسار والناصرية، باعتبارها أيدلوجيا لا تقبل القسمة على اثنين، فهى مدعومة بغطاء إلهى فى مجتمع متدين بطبعه، يبحث عن طوق نجاة بعد صدمة يونيو الكارثية. ولم تضيع تلك القوى وقتا، فتسارع بالسعى لتحقيق أجندتها الهادفة لقيام الدولة الدينية لتتواصل مع دولة الخلافة، وكانت البداية مع أحداث الخانكة الطائفية- 1972- وما تلاها من أحداث، كان استهداف الأقباط، شخوصاً وممتلكات، ثمن تحقيق تلك الأجندة، فيسارع الأقباط بالبحث عن غطاء يحفظ لهم وجودهم وهويتهم، وكانت أبواب الكنيسة مشرعة لحمايتهم، فى مجتمع ونظام يحجمهم ويلفظهم، ليجد البابا نفسه فى بؤرة الأحداث وأسقط فى يده، ففرض الدور السياسى نفسه على المشهد، كانت إرهاصات سطوة الإعلام تحبو على هامش المشهد، ثم تتوحش مع ثورة الاتصالات ودخول التجمعات القبطية فى الخارج كطرف فاعل فى الحراك المجتمعى والسياسى بعد أن مدت الكنيسة مظلتها الرعوية لبلاد المهجر. وفى تطور مثير تتصاعد المواجهة بين الكنيسة والدولة لتصل إلى ذروتها بقرارات سبتمبر 1981 بإبعاد البابا البطريرك إلى أحد أديرة وادى النطرون وتحديد إقامته، فيما عرف بالتحقظ، وإلغاء قرار رئيس الجمهورية بالتصديق على تعينه فى منصبه، ولا يمضى شهر حتى ينقلب السحر على الساحر، فيغتال الرئيس السادات على يد الأفاعى التى رباها فى حضنه. يخرج البابا من التحفظ- يناير 1985- ليواجه واقعاً مختلفاً، ويعيد ترتيب أوراقه ويدفع بوجوه شابة إلى مقاعد القيادة الكنسية، ويقرب بعضهم ويضع فيهم ثقته، لتشهد الكنيسة تحولاً فى العلاقات البينية على خلفية مواقف 81 وما تلاها. تمر السنون وتتبدد أحلام كثيرة تشكلت على خلفية رؤية قداسة البابا الموثقة فى صفحات مجلة مدارس الأحد (47- 54) ومجلة الكرازة فى إصدارها الأول (65- 71)، فيطل التيار العلمانى على المشهد ويعيدون طرح تلك الرؤية، ويقدم التيار العلمانى نفسه باعتباره تجمعاً بحثياً لنفر من العلمانيين يجمعون بين الرؤية النظرية الوثائقية والاحتكاك الفعلى وسط الأجواء الكنسية، وكنا نتوقع أن يعود التواصل كما حلم به قداسة البابا قبلاً، لكن أهل الثقة كان لهم رأى آخر، فتباعدت المسافات وكانت تقاريرهم تفتقر للمصداقية، فعبر كل مؤتمرات وفعاليات العلمانيين، كنا حريصين على وضع تقاريرها وأوراقها وتوصياتها أمام قداسة البابا من خلال أساقفة السكرتارية والأساقفة المقربين من قداسته، حتى تفاجأنا بتصريح قداسة البابا بأنه لم يتسلم أياً من أوراقنا، ربما لهذا ننتهز مناسبة احتفالياتنا بعيد جلوس قداسته ال 38، لنضع أمامه طيفاً من طرحنا فقد ننجح فى اختراق الجدار العازل الذى أقامه أهل الثفة فى دائرة مساعديه، لنؤكد بنوتنا للكنيسة ولقداسته، ونصلى مع الكنيسة أن يديمه لنا وللكنيسة، ونأمل أن يحدث ثغرة فى جدارهم هذا تعبر من خلاله أوراقنا بكاملها.