«سلام فى الوطن، سلام فى العالم».. «إذا لم يعش جيرانك فى حرية وأمن فلن تعيش أنت أيضاً فى حرية وأمن».. هاتان الجملتان المتناقضتان تشكلان الاختلاف الحقيقى فى السياسة الخارجية التركية بين العهد الأتاتوركى وعهد إسلاميى العدالة والتنمية الطامح للعودة لدور رجل أوروبا المريض فى إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية. الجملة الأولى هى شعار رفعه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك ليعلن أن تركيا خرجت من محيطها كدولة للخلافة الإسلامية لتنشغل بمشاكلها الداخلية فقط.. أما الجملة الثانية فهى لوزير الخارجية التركى أحمد داوود أوجلو وتلخص نظرية «البيوت الخشبية» التى تتبناها الخارجية التركية حاليا، ومغزاها أن النيران إذا اشتعلت فى أى دولة فى المنطقة ستنتقل بسرعة إلى الدول المجاورة وتشعل المنطقة. وصاغ أوجلو تلك النظرية فى كتاب ضخم حمل اسم «نظرية العمق الاستراتيجى وترتكز فكرتها الأساسية على أن تركيا، بحكم انتمائها، إلى واقع جيو - سياسى متعدد الأقاليم (البلقان، آسيا، الشرق الأوسط، أوروبا) لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن التفاعل النشط والفعَّال مع كل هذه الأقاليم، ضمن عملية إعادة اكتشاف جديدة للجغرافيا والتاريخ (محمد السعيد إدريس/مختارات إيرانية)». وفى حديث لأحمد داوود أوجلو مع صحيفة «راديكال» التركية كشف أن السياسة الخارجية التركية ترتكز على 5 أسس أولها التوفيق بين الحريات والأمن، فهى تقدم نموذجاً لدولة تسير فى الإصلاح السياسى دون تفريط فى المتطلبات الأمنية. وثانى هذه الأسس هو النزول بالمشكلات بين تركيا وجيرانها إلى نقطة الصفر، أو ما يسمى ب«تصفير» المشكلات، وثالثا اتباع سياسة خارجية متعددة الأبعاد ترتكز على أن تركيا هى مصدر لحل المشاكل وطرح الحلول للمشاكل الإقليمية دون الميل لطرف على حساب الآخر، ورابعا تطوير الأسلوب الدبلوماسى بإعادة تعريف دور تركيا فى الساحة الدولية، ويقصد وزير الخارجية التركى تغيير المفهوم الشائع عن تركيا بأنها جسر بين الشرق والغرب إلى دور جديد وهو أن تركيا بلد مركزى فى تقاطع الحضارات. أما خامس تلك الأسس فهو الانتقال من السياسة الجامدة فى الحركة الدبلوماسية إلى الحركة الدائمة وذلك بالتواصل مع كل بلدان العالم المهمة لتركيا وهو ما يطلق عليه قوة المبادرة الدبلوماسية أو القوة الناعمة (محمد نور الدين/ المستقبل العربى). ولا عجب أن نرى بعد ذلك الأطراف المتصارعة فى المنطقة وحتى الاحتلال الأمريكى يعتبرون تركيا حجر ارتكاز فى المنطقة وهذا يظهر جليا فى تأكيد وزير التجارة والصناعة والعمل الإسرائيلى بنيامين بن أليعازر أن إسرائيل تعتبر تركيا ذخرا استراتيجيا نظرا لأهميتها «الجيوسياسية». وأضاف اليعازر: «إن إسرائيل معنية بإعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، معترفا مع ذلك بأن هناك سحابة تخيم حاليا على العلاقات الثنائية». وكانت الحكومة التركية أعلنت أن علاقاتها الثنائية مع إسرائيل ستتضرر فى حال لم تضع حدا «للمأساة الإنسانية» فى قطاع غزة ولم تستأنف الحوار مع الفلسطينيين. كما أن الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد أشاد بالدعم الذى قدمه رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوجان لموقف إيران فى الأزمة الناجمة عن برنامجها النووى. وقال أحمدى نجاد خلاله اجتماعه مع أردوجان فى طهران إنه «يقدر» موقف أردوجان المتعلق بالبرنامج النووى وبإسرائيل، التى يؤكد خبراء أنها الدولة النووية الوحيدة فى الشرق الأوسط رغم عدم اعترافها بذلك . وكان أردوجان انتقد صمت الغرب على البرنامج النووى الإسرائيلى مقابل ضغطهم على إيران التى تسعى للحصول على تكنولوجيا نووية سلمية. ومما يعزز دور تركيا فى المنطقة أن دول مجلس التعاون الخليجى وقعت مع أنقرة اتفاقاً للشراكة الاستراتيجية ووقع العراق معها اتفاقاً مماثلاً كما أن تركيا لها علاقات تعاون مميزة مع سوريا ومصر. وبعيدا عن النظريات التركية التى تحكم سياستها الخارجية، يرى عائد كاظم الهلالى، الأستاذ الجامعى العراقى، أن تركيا تنظر إلى مشاكل المنطقة العربية على أنها فرصة ذهبية لعودة الوالى العثمانى والباب العالى إلى سدة الحكم مرة أخرى وهى إذ ترى أن المنطقة العربية تمر بفترة الرجل المريض عليها إذن أن تقوم برسم استراتيجيات مستقبلية ولو بشكل محدود، الآن، لفرض الهيمنة التركية عن طريق حلحلة المشاكل العربية وإظهار الوجه الجميل تارة وتارة عن طريق ممارسة سياسة العصا والجزرة وخصوصا فى قضية المياه وما تشكله من أهمية كبيرة فى حياة بلدان الشرق الأوسط العربى بالذات. وملخص السياسة التركية أنها ليست مكملة للعرب ولكنها فى حقيقتها تبحث عن أطماع فى استعادة إرث الإمبراطورية العثمانية التى كان يطلق عليها «رجل أوروبا المريض» قبل أن تقسمها الدول الاستعمارية.