يعتبر البعد الدولى لظاهرة تجاوز الحدود مؤثرا بشكل كبير فى خلق مساحات التحالفات الإقليمية، وهذا يرجع إلى أن الظاهرة مرتبطة فى المقام الأول بإعادة بناء مناطق النفوذ الإقليمية. فنلاحظ أن القوى الكبرى فى العالم عادة ما تميل إلى أن يكون لها سياستان فى اللحظة نفسها، إحداهما مع ترسيم الحدود رسميا واحترامها، وأخرى، مع بناء مناطق نفوذ إقليمية تضمن دينميات تجاوز للحدود من الناحية الاستراتيجية. هذا لاحظناه فى حالة أمريكا مع عراق صدام حسين والكويت، وحالة فرنسا وأمريكا مع الجزائر والمغرب، وحاله فرنسا وأمريكا مع ليبيا وتشاد، وحالة أمريكا مع إسرائيل ومصر على سبيل المثال، فى قول آخر، إن أى توتر حدودى يضمن الظاهرتين: عدم استقرار الحدود الرسمية وتجاوز الحدود. والظاهرتان فى العالم العربى والشرق الأوسط لهما أبعاد دولية كثيفة ومعقدة ومتبادلة الأثر والتأثير. فبالنسبة للتجاوز الحدودى السعودى اليمنى فمنذ عام 2004م وحتى الآن أخفقت الحكومة اليمنية فى إقناع واشنطن بضم حركة الحوثى إلى قائمة الإرهاب. بالتوازى مع هذا الرفض صدرت تعليقات من سياسيين وتقارير بحثية من واشنطن تتهم الحكومة اليمنية بالتغاضى عن أنشطة «القاعدة»، بل ذهب البعض إلى اتهام الحكومة بوجود صيغة تحالفية غامضة معها. يوم الخميس 17 ديسمبر 2009 كان أوباما يهنئ الرئيس عبدالله صالح على نجاح ما سمته اليمن مهمة نوعية استباقية ضد تنظيم القاعدة فى مناطق أبين وأرحب وأمانة العاصمة رغم الضحايا المدنيين. واللافت فى التهنئة حسب وسائل الإعلام الرسمية اليمنية أن أوباما أعرب عن تفهم بلاده لقلق الحكومة اليمنية تجاه تمرد حركة الحوثى. السؤال الآن: ماذا يعنى التفهم الأمريكى للقلق شمالا مقابل السماح بالضرب جنوبا وفى العاصمة ضد القاعدة؟ يلاحظ قبل تنفيذ عملية 17 ديسمبر 2009 فى العاصمة وأبين، أن مكتب الحوثى سبقها بثلاثة أيام بنشر مقطع فيديو يعرض صور جثث لأشخاص يقال إنهم ماتوا جراء قصف بطائرات أمريكية لملجأ أسرى، فتوفى منهم 122 شخصا وأصيب 44 آخرون. نفت الإدارة الأمريكية ذلك وقالت إنها تقدم فقط التدريبات والنصح لليمن والسعودية وحلفائها فى المنطقة. ومثلما رسمت ملامح الدهشة فى أن يغامر الحوثى بالتحرش بالمملكة، إذ يستحيل فعل ذلك وهو تحت الضغط المباشر من الجيش اليمنى، فإن الدهشة نفسها تعود مع اتهام الحوثى للطيران الأمريكى بقصف أسراه، بينما يرفض الأمريكان إدراجه ضمن حركة الإرهاب. القول الأرجح أن الحوثى عبر قيادات عليا فى جسم النظام اليمنى كان على اطلاع بالمساومات الأمريكية اليمنية بشأن الضربة التى ستوجه للقاعدة، والتى يعرف بأنه قد تم تأجيلها أكثر من مرة. كانت نتيجة المساومة سماح الحكومة اليمنية للأمريكان بضرب القاعدة مقابل تفهم الإدارة الأمريكية للقلق اليمنى إزاء الحوثى، واستمرار عدم ملاحقته قضائيا، فى المقابل أراد الحوثى مساومة الأمريكان باتهامهم بقصف الأسرى وكسب تعاطف شعبى فى الداخل لحركة تواجه الطيران الأمريكى والجيش اليمنى والجيش السعودى. ويمتد الأمر إلى رفض الأمريكان اتهام إيران بدعم الحوثى، وقال مساعد وزير الخارجية الأمريكى مؤخرا، «لكى أكون صريحا ليس لدينا أى معلومات مستقلة عن دعم إيران لحركة الحوثى فى اليمن». فى مقابل الموقف الرسمى الأمريكى يتساءل مركز «ستراتفور» الأمريكى للاستشارات الأمنية فى ولاية تكساس عن مهمة القوات الأمريكية والدولية فى البحر الأحمر وخليج عدن ويستغرب من استمرار تهريب السلاح للحوثيين، فيقول : «القوات الإيرانية البحرية المتواجدة فى البحر الأحمر وخليج عدن تقوم بعملية تهريب الأسلحة من أحد الموانئ الإريترية إلى السواحل اليمنية». نحن إذن إزاء سياستين لأمريكا: إحداهما ترفض إدراج الحوثى كحركة إرهابية، وتنفى عن إيران دعمها للحوثى، وتسمح أساطيلها بتهريب السلاح عبر خليج عدن والبحر الأحمر، والأخرى تقدم النصح والتدريب لليمن والسعودية، وتعلن التزامها بأمن أصدقائها فى المنطقة. إن ما نشاهده هو إعادة ترتيب النفوذ والمصالح الأمريكية فى المنطقة من حيث: 1-السيطرة على خطوط الملاحة الدولية «باب المندب»، 2- وبيع أسلحة للجميع، 3- استخدام حركات التمرد للضغط على السعودية واليمن، 4- اللعب بورقة مفاوضة فى الحوار الأمريكى الإيرانى. وربما نشهد فى الفترة المقبلة تنازلا أمريكيا لإيران بمساحة ومصالح ونفوذ فى المنطقة. أخشى أن تجد الحكومة السعودية نفسها سريعا فى مأزق مع اقتراب لحظة اقتسام «الأسد الأمريكى والنمر الإيرانى» لحصيلة النفوذ الإقليمى. ويستمر التحليل.