النبى قبل الهدية

ومن شاء فليقبل ومن شاء فليرفض، بمجرد أن وطئت قدما المحافظ أرض المحافظة حتى كان ذبح عظيم يُمأمئ فى الاستراحة النيلية.اضطر المحافظ غير باغٍ ولا عادٍ أن يُهدى صاحب الخروف عصاه الأبنوس التى يتوكأ عليها، التحية بأحسن منها، وما إن قام على شؤون المحافظة ناهضاً حتى كانت بطات سمينات من تلك التى يسيل لها لعاب الثعلب فى «كليلة ودمنة» تكاكى فى باحة الاستراحة النيلية.
رد المحافظ الهدية إلى صاحبها، مؤكدا أنه ليس لديه ما يتوكأ عليه، ولكن هناك عصا غليظة لمن يكرر تلك الفعلة رافضاً الطريقة الشعبوية التى تلحق الحق بالباطل على طريقة «النبى قبل الهدية»، رغم أن النبى (عليه أفضل وأتم الصلوات والتسليمات) قبل الهدية ولم يقبل الرشوة.
وضرب المحافظ مثلا، أحداث قصة البطات السمان جرت فى إحدى محافظات الصعيد، ولكن فى القاهرة قصة أخرى. لم يفضّ صاحبنا اللفافة الأنيقة للهدية التى بدت ثمينة، وردها إلى مرسلها مع كل التمنيات الطيبة بعام جديد. سألت مديرة مكتب رجل الأعمال المرموق رسول صاحبنا: هل تلك سُنة ابتدعها صاحبك أم يرفض هديتنا؟ بطيبة قال لها الرجل: والله يا ست هانم صاحبى يرفض كل الهدايا بغير استثناء، ويردها إلى أصحابها متمنياً لهم الخير فى المساء والصباح وبين بين،
فقبلتها متعجبة من صحفيى آخر الزمان، وعاد الشاب متحيراً ليسأله: لماذا رددتها وبدت ثمينة، فقصّ عليه قصة البطات السمان، مضيفا: الحمد لله واهب الخيرات، لا أملك ما أرد به على الهدايا التى تصلنى بمناسبة رأس السنة أو رقصها، لأن أحد هؤلاء الواهبين لا يعرفنى حق المعرفة ولو عرفنى فى الحق لقال سلاما.
هدايا رأس السنة (سُنة) ابتدعها طائفة من رجال المال والأعمال والتابعين، يعتقدون فى تفسير باطل لقاعدة «المؤلفة قلوبهم» ويفسرونها تفسيرا لم يرد فى «ابن كثير» وكثير من التفاسير التى تحض على البر والإحسان، فصار «المؤلفة قلوبهم» هم «المؤلفة جيوبهم»، وبين القلب والجيب فراسخ يقفزونها قفز الجياد فى مضمار السباق بحثا عن الفوز بالشوط، والشوط واعر على ذوى الجيوب النظيفة.
من لا يأت بكسر النفوس يأت بكسر الرؤوس. هدايا رأس السنة ليست فرض عين ولا هى فرض كفاية، ولكنها تكفى لمس الشفافية، ولمس النزاهة، ونقض العهد الصحفى بين الكاتب وقرائه إذا كان البعض منا يعتبر لقراء محتملين يطالعون ما يكتب ويسطر مدادا، بأيكم المجنون الذى يصدق كاتبا قبل الهدية على بينة من الأمر.
تكفى رسالة تهنئة إلكترونية مصورة يجرى تحميلها على البلوتوث، أو كارت من هيئة البريد، ولديهم كروت ورقية ملونة تسر الناظرين، ولكن عندما تكون الهدايا سبائك ذهبية وسلعاً إلكترونية وأحيانا سلعاً معمرة، وأقلاماً من تلك التى تكتب وحدها، وولاعات تكفى لتوليع البلد ومن فيه، فالقابض على جيبه نظافة كالقابض على الجمر، وأى جمر أقسى على النظيف من هدية تفقأ أعين الناظرين، ويسيل لها لعاب المتشوقين.
قدّم السبت تلاقى الحد قدامك، قدّم السبيكة تلاقى الصحفى بيرمح قدامك، ستجد القلم رهن الإشارة، واللبيب بالهدية يفهم، الهدية لا تلقى هباء، مدخرة لعوزة، عثرة مالية تحتاج وقفة صحفية، ووقفنا وقفة رجالة، فى قضية تحتاج إلى مساندة قلمية، طالما هناك سبت دوما هناك أحد قادم، وهناك بقية أيام الأسبوع وبقية أيام الشهر وبقية أيام السنة وبقية فى العمر، يعطينا وإياكم طول العمر.