سنوات طويلة مضت، لم أسمع عنه، كل ما أعرفه أنه سافر السعودية بحثاً عن رزق أوفر وأكثر انتظاماً، لكنه هاتفنى، أمس الأول، مصدوماً ومندهشاً، وغاضباً، وباغتنى بالهجوم: «ماكنتش أتصور إنك تعمل كدة» وقبل أن أسأله عن الجرم الذى فعلته ورغم محاولاتى المتكررة لمقاطعته وهو يعيد المعنى نفسه بمفردات مختلفة ويقول: «مش انت أحمد الصاوى اللى عرفته وحفظته القرآن وهو صغير، وكان أملى فيه كبير». الرجل بالفعل كان أحد المشايخ الذين تعلمت على أيديهم وحفظت ما تيسر من القرآن فى مراحل تعليمى الأساسى، لكنه بعد مضى أكثر من عشر دقائق من مكالمته، لم أكن أعرف سبب غضبه وثورته، وكيف خيبت أمله، والحقيقة أنه كان دائماً صعب المقاطعة، حين ينطلق فى حديث يبدو مقتنعاً به، لكننى بعد قدر من الجهد نجحت فى ذلك وطلبت منه أن يحدد الاتهام بالضبط على الأقل حتى أعرفه، ففوجئت به يقول بوضوح: «بيقولوا إنك تطاولت على الشيخ، يوسف القرضاوى، فى مقالك». وكنت كتبت مقالاً، أمس الأول، تحت عنوان: «علمنى كيف أحتفل» علّقت فيه دون تهجم أو تطاول، ومع تأكيد حفظ الأقدار والمقامات، على خطبة الجمعة للشيخ، يوسف القرضاوى، التى نقلتها الصحف ووكالات الأنباء والتى تعرض فيها لظاهرة الاحتفالات بعيد الميلاد فى البلاد الإسلامية، منتقداً هذه المظاهر. وركزت فى هذا المقال على فكرة أن للمسلمين نصيباً واضحاً فى المسيح عليه السلام وجميع الأنبياء، وكان يمكن أن تستغل هذه الاحتفالات، التى أصبحت شئنا أم أبينا ثقافة عالمية، فى توضيح جوهر الإسلام كرسالة خاتمة تؤمن بجميع الرسل، وألا يحرّم الشيخ الجليل مشاركة المسلمين فى هذه الاحتفالات، وأن يرشدهم إلى طريقة إسلامية لهذا الاحتفال تعكس حقيقة الإسلام وجوهره. والحقيقة أنى سألت الرجل الغاضب «الذى خاب أمله فى» سؤالاً بديهياً: «هل قرأت المقال؟» لكنه لم يقرأ المقال واكتفى بقوله: «أنا سمعت عنه»، ولم يكن الأمر صعباً فى أن أعود به لنص المقال ليكتشف أننى كنت أطرح فكرة بسيطة كمسلم بسيط، فى نقاش هادئ قد يكون ذا وجاهة وقد يجانبه الصواب دون تطاول أو تجاوز. بنى الرجل ثورته على اتهام «سماعى» وبادر بتوبيخى دون أن يفكر فى بذل قدر من الجهد لقراءة النص الذى سمع عنه بنفسه ليتأكد.. وهو ليس وحده فى ذلك وإنما هى ثقافة واسعة وممتدة فى مجتمعاتنا اسمها ثقافة «سمعت»، والغريب أنها تتحول إلى فعل فورى قد يكون له تأثير فعال. كم خرجت مظاهرات ضد كتب لم يقرأها أحد، وكم جرى احتقار أناس بسبب ادعاء مواقف لم يشاهدها أحد، ولك أن تتخيل أن جميع من تظاهروا ضد «الرسومات المسيئة» لم يشاهدوا هذه الرسومات، ومن سبوا ولعنوا سلمان رشدى وحيدر حيدر، فتظاهروا فى الشارع أو كتبوا فى الصحف، لم يقرأوا الروايتين، وهذا ليس دفاعاً عنهما «لأننى أيضاً لم أقرأ» لكنه سلوك يترسخ وينعكس على كل شىء، حتى صار تاريخنا يكتب بمنهج «سمعت» وتراه جملة من الحكايات والمرويات المنقولة دون توثيق، لذلك يكاد يكون تاريخنا هو التاريخ الوحيد الذى يحمل أوجهاً عديدة وتناقضاً فى المواقف الأساسية، فتجد فيه «السادات» بطلاً وخائناً و«أدهم الشرقاوى» زعيماً وقاطع طريق.. والأمثلة كثيرة..! [email protected]