ربما لا يعرف كثيرون من سكان مدينة نصر أن الذى بنى مدينتهم هو جمال عبدالناصر.. وأنه هو صاحب الفكرة فى بنائها.. ولذلك أطلق عليها اسم «مدينة نصر» رمزاً لنصر القوات المسلحة. فقد كان عبدالناصر يحلم بمدينة حضارية.. لذلك روعى فى تخطيطها أن تكون رئة أخرى لمدينة القاهرة.. تضم الوزارات ولكل وزارة حى سكنى.. وتضم السفارات والمدن الرياضية والمراكز التجارية.. وسبحان الله أن يموت عبدالناصر وتموت معه أحلامه.. ونسمع عن العشوائيات وفساد المحليات وهى تزحف إلى المدينة التى بناها. ومن يتابع أحداث عزبة الهجانة، التى هى جزء من العشوائيات، التى أصبحت عنواناً لفساد المحليات.. يجد الحكومة الآن تحاول تصحيح صورتها بهدم ما تم بناؤه بغير ترخيص. هذه الأحداث تدعونا إلى أن نتعرف على مدينة نصر وكيف تم بناؤها.. نقرأ عن حكايتها من البداية إلى أن أصبحت واقعاً على الخريطة.. فهناك جندى مجهول لا يعرفه الناس.. كان مثلث الأحداث الذى جمعه مع عبدالناصر والسادات من أجل بناء مدينة نصر.. وسبحان الله يموت الثلاثة ولم نسمع عن الضلع الثالث فى المثلث إلا بعد وفاته.. ولا أعرف كيف لا نحتفل بذكرى وفاة العملاق الدكتور سيد كريم، عمدة التخطيط المعمارى فى مصر، الذى كانت له بصمة على تخطيط مدينة جدة ومدينة الرياض وسان فرانسيسكو وعدد من المدن العربية.. هذا الفارس المصرى هو الذى قام بتخطيط وعمارة مدينة نصر.. أما كيف بدأ فالبداية على لسانه فى كتابه «سيد كريم رائد تخطيط المدن» بقلم السفير أحمد الغمراوى. يقول الدكتور سيد كريم: فكرة إنشاء مدينة نصر بدأت بتكليف من الرئيس جمال عبدالناصر، والتى تقوم على ضرورة بناء مدينة تحمل طابعاً حديثاً وتكون من إنجازات الثورة. وقد رشحنى أنور السادات لتخطيط هذه المدينة، عندئذ طلب منى الدكتور محمد أبونصير- وكان وقتها وزيراً للإسكان- اختيار المكان وكنت قد اخترت أرض العباسية للمشروع لإقامة استاد رياضى فى قلب المدينة وسوق دولية ومجموعة من المراكز التجارية، وبعد أن عرف وزير الإسكان باختيارى هذه الأرض فوجئت به يرمى الخرائط على الأرض مستنكراً المكان.. كما فوجئت بقوله: «إنت عايز تتسبب فى إقالتى من الوزارة؟»، وهكذا انتهى مصير ذلك المشروع بالرفض. لكن ما حدث بعد ذلك من تطورات أثبت عكس ذلك.. وأن فكر رجال الثورة كان أكثر واقعية وتفتحاً من فكر وزارة الإسكان، وعلى رأسهم بطبيعة الحال جمال عبدالناصر، وبدا ذلك بوضوح عندما أخبرنى السيد أنور السادات فى رسالة بعث بها إلىّ أنه قد حدد لى موعداً مع الرئيس عبدالناصر من أجل إطلاعه على هذا المشروع، وطلب منى آنذاك أن أكون جاهزاً للمناقشة والرد على كل الاستفسارات، كما أخبرنى أنه سيمر علىّ بسيارته الخاصة يوم الجمعة كى يصحبنى إلى منزل الرئيس وحتى تكون المقابلة بعيداً عن «الواغش»! وعرفت فيما بعد أن السادات- كما أخبرنى هو بذلك- اختار يوم الجمعة وهو يوم راحته الأسبوعية حتى يتوافر للرئيس وقت كاف للاستماع لشخصى، ومن أجل أن تتهيأ لى الفرصة لعرض وجهة نظرى فى غيبة المستشارين والمعاونين، الذين لا نعرف كيف سيكون موقفهم من المشروع، فقد يتدخلون لغير صالحه، وربما يبنى الرئيس رأيه على أساس مشورتهم. وفى التوقيت المتفق عليه جاء السادات بسيارته، وكنا فى منزل الرئيس عبدالناصر فى الموعد المحدد، وفى هذه المقابلة وضعت النموذج المجسم وحوله اللوحات التفصيلية فوق مائدة الطعام، ومن ثم استعرضها الرئيس عبدالناصر بنظرة شاملة، ثم قال: إنها رائعة شكلاً.. وبقى أن أقنعه بها موضوعاً، فقدمت أمامه شرحاً تفصيلياً للأفكار التى قام عليها هذا التكوين التخطيطى ومختلف نواحيه الفنية والاقتصادية. واستمر الحديث خلال هذه المقابلة قرابة ساعتين، ولم يبد الرئيس عبدالناصر أى شعور بالملل، بل بالعكس فقد طلب المزيد من المعلومات.. كما أخذ يوجه لى أسئلة كثيرة. وفى نهاية اللقاء أبدى إعجابه بالمشروع، وما احتوى عليه من أفكار جديدة ومبتكرة تمثل مدينة جديدة قائمة بذاتها، وتضم كل ما كانت تفتقر إليه المدينة القديمة من مراكز حضارية كالمعارض والمسارح وقاعة للمؤتمرات، وكان جمال عبدالناصر هو الذى اقترح إطلاق اسم «مدينة» وليس حياً سكنياً، فى حين كان تفكير وزارة الإسكان يقتصر على إقامة حى سكنى جديد. وبعد لحظات من الصمت والتفكير، بادرنى الرئيس بالسؤال عن الدواعى الملحة التى فرضت نفسها أو فرضتها أنا شخصياً لتكون أرض الثكنات العسكرية هى الموقع الوحيد لإقامة المشروع، وكانت الإجابة عن استفساره تتضمن تأمين القاهرة الكبرى كعاصمة عالمية ضد أخطار الحرب، وحتى لا تصبح هدفاً لغارات العدو، وذلك بنقل الثكنات العسكرية خارج حدودها. ولم أكد أنتهى من الإجابة عن سؤاله حتى ظهرت على وجه جمال عبدالناصر ابتسامة الرضا والاقتناع، وهو يتجه إلى أنور السادات ويطلب منه إعداد القرارات الخاصة بنقل الثكنات العسكرية من مكانها بالعباسية إلى خارج العاصمة، وإصدار الأوامر لوزارة الإسكان بتنفيذ مشروع هذه المدينة، وأن أكون مسؤولاً عن الإشراف على تنفيذ تخطيطها ووضع التصميمات الخاصة بمنشآتها الرئيسية المبينة فى الماكيت المجسم. وبعد اعتماد المشروع اقترحت الوزارة إطلاق اسم جمال عبدالناصر على المدينةالجديدة، ولكنه رفض ذلك الاقتراح وطلب بنفسه أن يطلق على المدينة اسم «مدينة نصر»، لأنه يعتبرها نصراً لمشروعات الثورة العمرانية. الله يرحمك يا عبدالناصر.. فقد شاءت قدرته ألا ترى ما أفسده المفسدون فى الحكم المحلى.. يكفى على أيديهم أن أصبحت العشوائيات «تعشش» فى قلب المدن.. وأصبحنا نعيش فى فوضى معمارية، والسبب رخاوة النظام. [email protected]