منذ زمن بعيد، وفطرة الحكيم من البشر تنطق بقول الشاعر: أكل امرئ تحسبين امرأ ونار تُوقد بالليل ناراً وإذا كان الشاعر قد هدى إلى نظم العبارة، وتنسيقها، وزخرفتها، والسير على منوال النغم، وإن كان ذا ألم، أو ساق ذلك كمن غرف من بحر، لا كما لو كان يخلع الضرس فإن الذين لا عهد لهم بهذا الفن الرفيع قد قالوا: «ما كل من لبس العمامة يزينها، ولا كل من ركب الحصان خيال»، ولا كل من «عك» فى المطبخ «عكاً» كان طباخاً. على مدى التاريخ البشرى والناس يُدركون أن هناك أستاذاً فى كل شىء، ينبغى أن يصلوا إليه عن طريق البحث والتنقيب وإظهار الأيادى التى تثبت بالبراهين القاطعة أنه بالفعل أستاذ، ورحمة الله على العلامة الشهاب الخفاجى الذى ذكر فى مقدمة كتابه «ريحانة الألبّا وزهرة الحياة الدنيا» أنه غادر مصر وهى عشه ووكره، ومربع صباه ونشأته، وليس فيها ممن يرتدى زى العلماء مَنْ يُجيد قراءة الفاتحة، وإذا كان ظاهر عبارته يدل على مبالغته من احتقانه وشعوره بالظلم إذْ لم ينصره إخوانه، ولم يؤازره أقرانه، فإن المحق ينطق بالصواب، ففى الناس مَنْ يرتدى زى العلماء وليس بعالم، كما أن فيهم من يرتدى زى الأطباء وهو دون الممرض، وقد يضع السماعة فى أذنيه يحملها لطبيب، فيظنه من يراه شيخ الأطباء، خصوصاً إذا كان ذا هيئة، ولا يعرفه من لقيه، فمن حكم عليه دون علم كان أعمى، وإن كانت عيناه تبصران، ومن حكم عليه ببينة كان مبصراً وإن شكت عيناه الرمد، من أجل هذا كان للإسلام موقف من حقيقة الإبصار، وقد تمثل هذا الموقف فى درس عظيم من دروس الهدى النبوى الكريم، حيث مرّ رجل ذو هيئة عظيمة، فسأل النبى -صلى الله عليه وسلم- أصحابه: ما تقولون فى هذا الرجل؟ فقالوا: «هذا إن تكلم يُسمع، وإن شفع يُشفّع، وإن خطب يُزوّج». ومرّ رجل آخر على غير تلك الهيئة، فسألهم السؤال نفسه: ما تقولون فيه؟ فقالوا بعكس ما قالوه فى الأول، فمثل هذا الذى لا يبدو أمام العيون طويلاً يُزينه اللباس، عريضاً تفوح منه رائحة المسك، يركب الناقة الشابة الراحلة، أو أحدث أنواع السيارات، بين خدم وحشم، مثله إن تكلم لا يُسمع، وإن شفع لا يُشفّع، وإن خطب صاحت العروس: الويل ولا هذا، والعنوسة خير من صحبته، أعوذ بالله، أأصوم وأصوم وأصوم، وأفطر على بصل، فلمن خلق الله العسل؟! وإذا بالنبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن هذا الأخير الذى لم يعجب الناس منظره يعدل (يساوى) ملء الأرض من الأول. وأمام هذا الدرس العظيم يقف الناس ما بين مبصر وأعمى، فالذى يأخذ الدرس على ظاهره، يقول: كل إنسان يبدو فى هيئة غير طيبة يعدل ملء الأرض من إنسان يبدو فى هيئة عظيمة طيبة ما فهم شيئاً، وكان للعمى مصاحباً، فإن النبى -صلى الله عليه وسلم- يهدف إلى تعليم الناس ألا يخدعهم الشكل، لكنه رسول الوجاهة والنظافة والتحدث بنعم الله تعالى، يروى البخارى عن أبى الأحوص عن أبيه أن النبى -صلى الله عليه وسلم- ورآه فى هيئة غير طيبة، فسأله: ألك مال؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال له: أكرم نفسك كما أكرمك ربك. وفى رواية صحيحة: إن الله يُحب أن يرى أثر نعمته عليك، فمن رزقه الله - عز وجل - مالاً أحب أن يرى أثره عليه من هيئة طيبة فى ملبسه ونعله، ومن لقمة هنية فى جوفه، ومن تمرة لذيذة فى يده. والصحابة - رضوان الله عليهم- حين سمعوه -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الكبر، وأنه لن يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة منه قالوا له إن الرجل منا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فلم ينكر عليهم هذا الحب، وإنما قال لهم: ليس هذا من الكبر، إنما الكبر غمط الحق، أى ليس من الكبر أن تحب لنفسك أن تبدو بين الناس ذا هيئة طيبة، إنما الكبر فكر، لكنه فكر سيئ يرى صاحبه ألا حق لأحد عليه، ظالم مستبد، يرى نفسه وفق ما يزين له شيطانه فوق الناس، وأن ما يفعله بهم من سوء هم أهلوه، ومستحقوه، فهو يرى نفسه صاحب فضل عليهم لكنهم لا يعرفون له هذا الفضل، ويرى نفسه إن زار أحداً من الناس فهذا شرف عظيم فى ديوان حياتهم، ويجب أن يفخروا بذلك، ويقولوا للناس: كفانا شرفًا أن فلاناً زارنا! وكثير من الناس قد أدى أخذه بالصور إلى مخاطر عظيمة لم يفتح عينيه عليها إلا بعد وقوع الكارثة.