من مصلحة كل مواطن شريف فى مصر، أن يفهم أن أمنها هو أمنه، واستقرارها هو استقراره، والمساس بوحدتها خطوة أولى فى طريقه إلى جهنم، من مصلحة كل مواطن شريف فى مصر، أن يفهم أن الفقر يمكن محاربته، والتعليم المتخلف يمكن إصلاحه، والفساد المالى والإدارى يمكن مواجهته، وكل الأزمات يمكن تجاوزها عندما يكون هناك مسؤولون لا يكتسبون قيمتهم من الكرسى، ويصلون إلى مناصبهم بالجهد والعرق والاختيار الحر، من مصلحة كل مواطن فى مصر أن يفهم أن الشىء الوحيد الذى سيستحيل معالجته إذا وقع لا قدر الله، هو الشرخ الاجتماعى الناتج عن الصراعات الدينية أو الطائفية أو العرقية، لأن مثل هذه الصراعات تنزع الحب من القلوب وتعمق الكراهية، وتقوى البعض على البعض، وتغذى ثقافة الانتقام، قد تندلع فى لحظة لكنها تحتاج لسنوات وسنوات لمعالجة أسباب اندلاعها، ومحو آثارها المدمرة. وهل من مصلحة أحد أن تتحول المحروسة بالنيل والأهرامات والمساجد والكنائس والمعابد والناس الطيبين، إلى مرتع الشياطين الإنس؟ هل من مصلحة أحد أن تعانى ما يعانيه السودان واليمن والعراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان من تناحر بين أطيافها وطوائفها؟ هل من مصلحة أحد أن يتحول البلد الآمن بوحدة أهله إلى بلد خائف من شقاقهم، كم من نصارى نصروا هذا البلد، وكم من مسيحيين أسلموا لهذا البلد، وكم من أديب مسلم كتب عن عبقرية المسيح، وكم من مفكر مسيحى كتب عن عبقرية محمد، إذن أين هى الأزمة؟ إن بقاء مصر قوية صامدة راسخة رغم ما واجهته ومازالت تواجهه من مشكلات نابع من وحدة الروابط وعمق الجذور، واتفاق أبناء هذه الأمة الشرفاء على أن الدين لله والوطن للجميع، ومع ذلك لم يستوعب الدرس بعد، لم يفهم تجار المزايدات وأصحاب الأوكازيونات الإعلامية فى الصحف أو فى القنوات الفضائية أن الرهان على ملف الوحدة الوطنية رهان خاسر، الرهان على القساوسة والمشايخ بديلاً عن القانون فى حل المشكلات والأزمات رهان خاسر، والحذر من المتأسلمين المتطرفين والمستنصرين المتعصبين مرجو فى هذه الأيام، خاصة فى ظل ما يثار عن قضية اغتصاب طفلة مسلمة على يد مسيحى فى فرشوط، واغتيال ستة مسيحيين بنجع حمادى فى ليلة عيد الميلاد، وانتشار رائحة غريبة من مطبخ أظنه يجهز بعناية لكى المصريين جميعاً بنار الفتنة وقد تم التمهيد لهذه الطبخة المسمومة وظهرت بوادرها فى حرق وتدمير بعض المنازل والمحال والقيام بتظاهرات استعملت فيها شعارات غير لائقة بمصر والمصريين، وإطلاق أخبار محفزة وحوارات مع مجرمين محكوم عليهم بالإعدام وتصريحات نارية من بعض من يمثلون أقباط المهجر وكلها تسير فى الاتجاه المعاكس لتجاوز المشكلة والخروج منها، إن هاتين الحادثتين وغيرهما من الحوادث التى وقعت، وسوف تقع، قد تعبر فى الظاهر عن احتقان طائفى وهذا ليس صحيحاً، وإنما هو احتقان اجتماعى يكشف عن أزمة أخلاق نعيشها على كل المستويات، إنها أزمة أخلاق سياسية بسبب التوظيف غير المسؤول من جانب بعض المسؤولين لمثل هذا الملف لصالح أغراض انتخابية، ومحاولة بعض المأجورين فى الخارج استثماره فى هدم الاستقرار لصالح إسرائيل، إنها أزمة أخلاق اجتماعية جعلت الجريمة شبه عادة تمارس بمنتهى القسوة والعنف، بين الأخوة والأقارب والأصدقاء والجيران بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو اللون أو النسب، إنها أزمة قانونية وأمنية، لأنها لا تتعامل مع هذا الملف بوصفه جريمة مخلة بالاستقرار والشرف والأمانة، وإنما باعتباره قضية طائفية قد يحابى فيها البعض على حساب البعض، وقد يغض الطرف فيها عن أشياء لا يصح التهاون فى شأنها، إنها أزمة أخلاق دينية ناشئة عن عدم الفهم الحقيقى لسماحة الدينين الإسلامى والمسيحى اللذين يدعوان للسلام، وحجر الزاوية فيهما هو السلام، وقصور البعض عن فهم أن الله قد خلق الديانات ليتنافس الناس على عبادته والتقرب منه، وليس لحرب أنفسهم بأنفسهم، إنها أزمة خطاب دينى يتعصب بسببه المرضى، لتطرفهم فى الخطاب المتشنج ومصادرة آراء الآخرين ورؤاهم. يقول الدكتور نبيل لوقا المسيحى الحاصل على الدكتوراه فى الشريعة الإسلامية: «إن 90٪ من مشاكل المسيحيين فى مصر قد تم حلها فى عهد الرئيس مبارك»، فهل يعتقد أن العشرة فى المائة المتبقية هى التى تولد كل هذا التشاحن والتطاحن والإحساس بالاضطهاد الدينى واستقواء البعض بالخارج؟ مصر للمصريين، وليست للمسيحيين أو المسلمين، مصر بالمصريين وليست لمن يعيشون بعيداً عنها ويريدون أن يحرقوها من بعد، مصر الهلال والصليب والشيخ والقسيس والمسجد والكنيسة والحب والمودة والتآخى، وليس أمامنا سوى التكاتف فى مواجهة الأزمات التى تصدر إلينا، لأن البديل الآخر هو الانتحار، ولا تصدقوا أن مصر معتلة بأزمات طائفية أو مذهبية كما يحلو للبعض أن يسوق، والأزمة التى نواجهها حالياً ويجب أن نتصدى لها، هى أزمة أخلاقية. [email protected]