من التطورات الجديدة نسبياً فى الحياة المصرية ظهور تقليد «نادى الكتاب» الذى يحقق للمشاركين فيه شبكة واسعة من المعارف المتنوعة والمنتمية إلى جميع العلوم الإنسانية والتطبيقية. كم أسعدتنى الدعوة التى تلقيتها من مؤسس «المصرى اليوم» رجل الأعمال المهندس صلاح دياب للمشاركة فى إحدى حلقات النادى، فقد اكتشفت أن هناك نخبا مصرية لا تكتفى بتعميق المعرفة فى مجال تخصصها العلمى والمهنى بل تسعى أيضاً إلى تحصيل منهجى منظم للمعارف الجديدة فى جميع المجالات، وإذا كان هناك من يعتقد أن وسائل الاتصال الحديثة تكفى كمصدر للحصول على المعارف فإن تجربة نادى الكتاب تثبت أن المتطلعين إلى المعرفة العميقة لا يمكنهم الاستغناء عن الكتب الجادة المتميزة التى تحقق إضافات للمعرفة الإنسانية. قال لى المهندس صلاح، إننى أدعوك بحكم تخصصك فى الدراسات العبرية والإسرائيلية والصهيونية، فالنادى سيناقش كتابا صدر حديثاً فى أمريكا وأوروبا باللغة الإنجليزية مترجماً عن اللغة العبرية للمؤرخ الإسرائيلى «شلوموساند»، الذى يرفض الأساطير التى قام عليها المشروع الصهيونى، ويدحضها دحضا علمياً مستنداً إلى البحث التاريخى والأثرى. الكتاب صدر تحت عنوان «اختراع الشعب اليهودى» تولانى حب الاستطلاع فسألت الداعى ما طبيعة هذا النادى؟ فقال نحن مجموعة من الأصدقاء من التخصصات المختلفة علمياً وضعنا تقليدا أن نجتمع كل أسبوعين حول كتاب يقترحه أحدنا من أحدث الكتب الصادرة فى العالم أو فى مصر بحيث يقرأ كل منا الكتاب ويكون فيه وجهة نظر ويسجل الأسئلة التى يثيرها الموضوع فى ذهنه، مما قد ينفع مصر ومفهوم النهضة الشاملة فيها. وأضاف المهندس صلاح: عادة ندعو أستاذاً متخصصا فى المجال الذى ينتمى إليه الكتاب ليفتتح حلقة النقاش ويلقى الضوء الأوسع على الموضوع وتاريخ البحث فيه، ثم يطرح كل عضو رؤيته وأسئلته ليعقب الضيف المتخصص فى النهاية. لقد لاحظت من تجربة المشاركة أن هذا النادى أقرب إلى السيمنار العلمى الذى نعقده فى الأقسام العلمية بالجامعات لمناقشة قضية معينة وإننى لا أتمنى أن يشيع هذا التقليد بين الراغبين فى المعرفة فهو قادر على إخراج أنماط التفكير المصرى من إطار الارتجال والعشوائية والتحيزات المسبقة إلى أنماط التفكير العلمى المنظم والموضوعى كما أنه يربطنا بمستجدات العلم أولا بأول. إن حضور أكاديميين ورجال أعمال من أصحاب التخصصات العلمية فى مثل هذا النادى يغنى النقاش فى إطار اجتماعى راق ومفيد. إن النخبة التى تشارك فيه تضم فطاحل من أمثال د. جلال أمين ود. عادل بشاى ود. أحمد جلال. ود. هبة حندوسة وجميعهم من خبراء وأساتذة الاقتصاد الدوليين وكذلك تضم د. زياد بهاء الدين ود. هانيا شلقامى ورجل الأعمال المتخصص فى إدارة الأعمال محمد قاسم والأستاذ ادجار الطويل وجيليان بوتتر وجميعهم من المشتغلين بالمعرفة العلمية. لقد سألت الأستاذ محمد قاسم عن أنواع الكتب التى تطرح للنقاش فأمدنى بقائمة تضم عشرات الكتب نوقشت منذ عام 2002 والتى تغطى مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والآداب والاقتصاد، التنمية البشرية والعلوم والتكنولوجيا والأدب والتاريخ والسياسة وسائر المعارف الإنسانية إن الكتب الثلاثة الأخيرة قبل كتاب «ساند» دالة على التنوع، وتتناول التجربة الصينية واحتمالات بلوغ الصين مرتبة القوة العظمى خلال عشرين سنة كما تتناول فكرة المدينة الفاضلة كما طرحها الفيلسوف توماس مور ومجموعة بهاء طاهر «لم أعلم أن الطواويس تطير». فى بداية الحلقة النقاشية طلب منى أن أبين السياق العام الذى ينتمى إليه كتاب «اختراع الشعب اليهودى»، فأوضحت فى إيجاز أنه أحد إفرازات موجة من الأبحاث التاريخية الناقدة للصهيونية ومقولاتها، النظرية التى أسست عليها مشروع اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، وهى موجة بدأت فى السبعينيات من القرن العشرين بعد الإفراج عن وثائق الجيش الإسرائيلى والحكومة الإسرائيلية أثناء حرب 1948، وبعد الكشف عن الوثائق الأمريكية والبريطانية عن الفترة نفسها. لقد أمدت الوثائق المؤرخين الذين عرفوا بالمؤرخين الجدد بالأدلة على جرائم الطرد والقتل والنهب للممتلكات طبقاً لخطط وسياسات مدبرة مسبقاً. بالإضافة إلى هذا ظهرت أبحاث تؤكد زيف أسطورة الملكية اليهودية القديمة لفلسطين، وهى الأسطورة التى اعتمدت عليها الصهيونية فى توجيه الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين. من أهم المؤلفين فى هذا الاتجاه «إسرائيل فنلكشتاين» الذى دحض هذه الأسطورة الصهيونية المؤسسة لفكرة اغتصاب فلسطين فى كتابين، ونفى وجود أى آثار تساندها. فى الاتجاه نفسه أيضاً صدر كتاب بعنوان «اختراع إسرائيل القديمة.. إسكات التاريخ الفلسطينى» للمؤلف «كيت واتيلام» فى هذا الكتاب كشف المؤلف زيف التيار الصهيونى فى البحث التاريخى، الذى يحاول أن يكرس فكرة الملكية اليهودية التاريخية لفلسطين من خلال إهمال وجود الشعوب السامية مثل الكنعانيين والمؤابيين والشعوب المتوسطية مثل الفلسطينيين السابق والتالى على دخول بنى إسرائيل إلى فلسطين. إن هذه الشعوب كانت موجودة فى الأرض بشهادة أسفار العهد القديم بدليل الحروب التى نشبت بينهم وبين بنى إسرائيل عند محاولتهم دخول الأرض، وإيجاد موطئ قدم فيها بعد الخروج من مصر. ومن المؤلفات المتجهة فى الاتجاه نفسه أيضاً كتاب توماس تومسون «أسفار العهد القديم فى التاريخ». بالإضافة إلى هذه المؤلفات التى راحت تدحض أسطورة الملكية اليهودية التاريخية ظهرت مؤلفات أخرى تناقش وتنفى صحة الأسطورة الثانية، وهى أسطورة النقاء العرقى اليهودى أو أسطورة الشعب اليهودى المنحدر من العبريين القدماء المشتت فى أوروبا وغيرها. من هذه الكتب كتاب آرثر كوستلر «القبيلة الثالثة عشرة الخزر» وهو كتاب أثار غضبا صهيونياً عارماً مثل كتاب «ساند» الجديد، وذلك لإثباته أن يهود أوروبا ذوى البشرة الشقراء والعيون الزرقاء والشعر الأصفر لا ينتمون من قريب أو بعيد إلى العبريين القدماء ذوى الملامح السامية السمراء أو القمحية. لقد سار كتاب «شلومو ساند» من خلال البحث التاريخى المدقق ومن خلال الاعتماد على الآثار فى الاتجاه نفسه. فلقد اعتبر أن الشعب اليهودى فى المنفى هو مجرد اختراع قامت به الصهيونية لتبرر الاستيلاء على أرض شعب آخر مؤكداً أن الرواياتاليهودية حول وقوع السبى وطرد اليهود من فلسطين فى العصر الرومانى مجرد أسطورة مزيفة، من هنا يعتبر أن يهود أوروبا هم أحفاد قبيلة الخزر، التى كانت لها مملكة فى جنوبروسيا بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين التى اعتنقت اليهودية عن طريق المبشرين اليهود ثم تشتتت فى بولندا وشرق أوروبا، إن أحفاد قبيلة الخزر هم مزيج من القوقازيين والأتراك، وليست لهم أدنى صلة تاريخية بفلسطين ولا بالعبريين القدامى من ناحية العرق والدم أو النسب، إن تأكيد ساند وجود التبشير اليهودى بالحجة التاريخية ينسف أسطورة الشعب صاحب النقاء العرقى. هنا يصل «ساند» إلى القول إن هؤلاء اليهود الأوربيين الذين غزوا فلسطين هم مجرد غزاة استولوا على أراضى الشعب الفلسطينى الذى تواصل وجوده على الأرض، والذى يجسد من وجهة نظرى خلاصة التطور السلالى والحضارى عليها.