بعد يومين، 18 فبراير، يحلُّ عيد ميلاد المُفكِّر المصرى محمود أمين العالم. ولستُ أشكُّ فى أنه، من هناك، ينظرُ إلينا بحبٍّ بوجهه المشرق وابتسامته الشهيرة، يدعو لنا ويشدُّ من أزرنا لكى نحققَ لمصرَ الجمالَ والرَّغَد والعدالةَ التى سعى إليها طوالَ عمره. أحَبَّ مصرَ، فتحمَّل من أجلها سياطَ جلادين أجلاف، مصريين للأسفٍ. انحنى ظهره تحت ثِقَل هموم البلد، فيما لم تنحنِ هامتُه، ولم تَهُن. أراه فى معتقل 59، يكسِّر الصخرَ بفأسه، فيما عقلُه شاردٌ فى صخور أخرى عليه تفتيتها. صخورُ تجهيل تزرعها النظمُ فى أدمغة البسطاء، فتغيمُ عيونهم ولا يفرّقون بين مُحِبِّ الوطن، وعدوّه! لذلك لم أندهش، (بل اندهشت!)، حين أخبرنى عن تلقيه سياطَ سجّانه الأُمّىّ بالنهار، ثم جلوسه إليه فى المساء ليعلّمه القراءة والكتابة! أشردُ وأتمتمُ: هذا سلوكُ الأنبياء! فيبتسم قائلا: »الأمرُ أبسطُ! فقط، كلٌّ منّا يؤدى عمَله. وظيفةُ السجّان تعذيبى، لأنهم أفهموه أننى عدوُّ الوطن، (بفرض أن النظام هو الوطن!) ووظيفتى أن أقشِّرَ عنه حُجُبَ الجهل، ليدخله النورُ، ويفهم«. رحل عنّا قبل عام 10 يناير2009، بعدما درس الفلسفة ودرَّسَها. عُيّن أستاذًا مساعدًا بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، على درجة الماجستير، ببحثه القيّم »فلسفة المصادفة«، ثم سجّل الدكتوراه عام 1954، لولا أن فُصِل من الجامعة لأسباب سياسيّة! رحل بعدما لعب دورًا نبيلا فى حركة اليسار المصرى سياسيًّا وفكريًّا وتنويريًّا، وبعدما وهبنا ابنته د. شهرت العالم أستاذة الفلسفة التى ترجمت لنا كارل ساجان، والنظرية والتطبيق فى آداب المستعمرات القديمة، والثقافة والعولمة فى النظام العالمى، وغيرها. رحل بعدما دافع عنّا، نحن الشعراء الجدد، ضد السلفيين من ورثة الشعر. ورحل تاركًا لنا إرثًا فكريًّا ضخمًا عابرًا الجغرافيا والزمن. معارك فكرية، الإنسان موقف، الوعى والوعى الزائف، والعديد من كتب النقد الثقافى والأدبى. وأدعو د. أحمد مجاهد، رئيس هيئة قصور الثقافة، أن يعيد طباعة مؤلفاته فى سلسلة »ذاكرة الكتابة«، كى يفيد منها النشءُ الجديد، الذى طالته يدُ التجهيل الثقيلة. كما أدعو د. زكى بدر أن يشكّلَ لجانًا من أساتذة الفلسفة لتبسيط أفكاره وتدريسها فى مناهج التعليم المصرى، علّها تكونُ معادلا موضوعيًّا للأفكار الظلامية التى تُبثُّ فى عقولهم. قبل أسبوع، زرتُ مع أصدقاء قلعة صلاح الدين الأيوبى. وقادتنا المرشدةُ السياحية الجميلة منى عادل إلى منطقة السجون، فمَنّيتُ نفسى أن أميّز الزنزانةَ التى نالتْ حظوةَ اعتقال المناضل المصرى الشريف! تُرى أىُّ تلك الجدران تحمل قصائدَ العالِم وأفكاره، خطَّها فى ظُلمة محبسه، لتبقى شاهدًا لا يموت؟ أهذه ببابها الحديدى الثقيل؟ أم تلك ذات الشرّاعة الخشبيّة الحزينة؟ ها هنا، على ربوة منعزلة عن هضبة المقطّم، صعد رجلٌ أحبَّ مصر وأحبّته، مُكبّلا بأساورَ من حديد، وبأخرى من جهالة ضُخَّت فى عقولِ بسطاء، صنع منهم النظامُ جلادين ليضربوا بهم رؤوسَ مستنيرين، عليهم تراهنُ مصرُ أن تقومَ بهم صحوتُها. محمود أمين العالم، كلّ سنة وأنت طيب، فى عيد ميلادك الثامن والثمانين. [email protected]