بمنتهى الصراحة والمصداقية نحن نعانى فى الوقت الراهن من اضمحلال حاد للانتماء، قد يؤكد البعض أن هذا الأمر -واقعاً- منذ أعوام مضت، إلا أن «الحكاية» استفحلت لتتخذ أشكالاً أخرى منها انتشار حالة الحنق والضيق والعدائية التى سيطرت حالياً على قطاعات عديدة فى المجتمع، ومعها أصبح الكثيرون يرفضون حياتهم، ومن يقول لهم أين قيمة «القناعة» و«الرضاء» إما أن يتعرض للعدوان اللفظى أو البدنى أو ينظر إليه نظرة ساخرة كأنه من كوكب تانى!! إذن نحن نعيش أجواء انتشار أمراض مجتمعية عديدة، جميعها يؤكد تراجع الشعور بالانتماء وسيادة مبدأ «نفسى ومن بعدى الطوفان»! خلال الأعوام الماضية حاولت العديد من أجهزة الإعلام الحكومية التأكيد على قيمة الانتماء، ولأن ما تدعو إليه يتم عبر مسؤولين ليست لديهم مصداقية لدى الناس، وبالتالى ما يدعون إليه لن يلتفت إليه أحد. لابد أن يدرك الجميع أن الانتماء هو إحساس فكرى غريزى لدى الإنسان، وبالأخص الإنسان السوى نفسياً الذى لا يعانى من اضطراب فى حالته الوجدانية، بل يميل إلى الانتماء بطبعه، فمثلاً إذا عاد الإنسان إلى بيته شعر أنه عاد إلى مكانه الطبيعى الذى ينتمى إليه، فهناك شعور بالارتباط بينه وبين المكان الذى أصبح جزءاً منه، وإذا عاد الإنسان لوطنه بعد غياب أو فترة اغتراب يشعر بأنه اكتمل أى اكتمل توازنه النفسى. وكما يمكن لإنسان أن ينتمى لمكان يمكن أيضاً أن ينتمى لشخص آخر تربطه به صلة حب مثل أخيه أو أمه أو أبيه أو زوجته. ومن الطبيعى أن يشعر الإنسان بالانتماء لوطنه، فالوطن يمثل أصل الإنسان وماضيه وحاضره ومستقبله.. الوطن يحمل معنى المكان والزمان معاً بما فيه من ثبات واستقرار، ولذلك فالإنسان الذى يحب وطنه يحب ذاته، والذى يحب ذاته يحب وطنه، لأن الانتماء يجعل الوطن والذات غير منفصلين. ومن لا يشعر بالانتماء وتنفصل أحاسيسه عن وطنه فهى حالة تبلد وجدانى، وهذا يبدو بوضوح فى اضطرابات الشخصية مثل الشخصية السيكوباتية أو الإجرامية كما فى حالة الجواسيس، وهى أشد حالات التبلد الوجدانى، وعلى العكس من ذلك تماماً هناك من تربطهم بالوطن حالة عشق مثل الفدائى الذى يضحى بحياته من أجل وطنه، وذلك تماماً مثل الذى يخلص فى عمله ليرقى بذاته وبوطنه، ومن يحافظ على سلامة ونظافة الأماكن العامة، فكل من هؤلاء عاشق لوطنه وينتمى إليه انتماء حقيقياً، إلا أنه فى بعض الأوقات يحدث نوع من التراجع لمنحنى العشق حيث يضعف الشعور بالانتماء للوطن بسبب أوضاع قد تفرض على الإنسان رغم إرادته، فقد يكون هناك ظلم اجتماعى يتسبب فى حرمان المواطن من الحصول على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، أو تردى الحياة السياسية والاقتصادية وتدهورها، كل ذلك فى مجمله يؤدى إلى إضعاف الشعور بالانتماء، خاصة إذا كان هناك فساد تتسبب فيه طبقة معينة تتحكم فى مصير الوطن! والشباب المصرى الآن، الذى أستشف من خلال تعاملى معهم، بعض الضعف لقيمة الانتماء إلى مصرنا الحبيبة - معذور، لأنه لا يرى مستقبله واضحاً، أو يراه مليئاً بالمشكلات والمعوقات أو عدم وضوح الرؤية حتى يتسنى له التخطيط والعمل على إيجاد وابتداع حياة طبيعية يسعد فيها بالعمل والسكن والدخل الذى يتناسب معه. ولا يمكن بأى حال من الأحوال استعادة من خفت لديه الشعور بالانتماء وحبه وعشقه لهذا الوطن، إلا من خلال اتباع عدد من وسائل دعم الثقة، فلابد أن يشعر مثل هؤلاء بأن هناك من يعمل له ولمستقبله، لابد أن تكون هناك مصداقية من الجميع فى التعامل مع المشكلات العامة بمعنى اتباع الصراحة فى الإفصاح عنها، ومحاسبة المتسببين فيها، وفى المقابل لابد أن يحدث نوع من التطوير للرسالة الإعلامية الرامية لتدعيم قيمة الانتماء، لابد أن تصاغ رسالة إعلامية لا تتسم بالسطحية، والبساطة الشديدة، وإنما بالحبكة والكفاءة. ولابد للشباب أن يستعيد قيمة التضحية والتنازل عن الكثير من المتطلبات الشخصية وأن يعمل وينتج أكثر وأن يفكر بمنتهى البساطة ويتفاءل بحاضره ويستمر فى عمله الراهن ويبذل فيه كل طاقته ليشعر بأنه ناجح فيؤكد ذاته، ونجاح المجموع يؤدى إلى نجاح الوطن. [email protected]